د - المنجي الكعبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1172
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
كنت أقدّر أن أفرغ من قراءة هذا الكتاب وتقديم ما يتجمع لدي من تقييدات عليه قبل اليوم بكثير، لأني في الحقيقة بدأت القراءة فيه لأول يوم من صدوره أي منذ ستة أشهر. فقد كان الأستاذ محمد اليعلاوي، أحد المحققين الثلاثة للكتاب جاء يومها إلى مجلس الأمة وبحركة المبادر بأمر سار رأيته يقوم من مكانه بمقاعد الحكومة ويقصد إليّ بين صفوف النواب فيعطيني النسخة المهداة إليّ من الكتاب وبها توقيعه هو وتوقيع زميليه الأستاذين الحبيب الفقي وإبراهيم شبوح المشاركين في التحقيق . فعلمت أن الكتاب ظهر، فهنأته به وشكرته على المبادرة.
ولم يمنعني الانشغال في ذلك الوقت بمداولات الميزانية عن تصفحه بسرعة وإعجاب بإخراجه، ثم مضيت في قراءته بصورة منتظمة في الأول داخلها فيما بعد بعض البطء، والتقطع بعد ذلك بسبب طول الكتاب من ناحية وبسبب توقفاتي الطويلة المتكررة بين سطوره. ولأمر آخر من ناحية ثالثة وهو ما تأخذه قراءاتي الأخرى من وقت.
مثل أمامي هذا الكتاب صورة من صور إحياء التراث في تونس في السنين الأخيرة بعد أن قامت الجامعة ، وبعد أن نصب عدد من أساتذتها أمام أعينهم مهمة النهوض بقسط في نشر المخطوطات المتعلقة بالحضارة العربية الاسلامية في ربوعنا.
وتتابعت بذهني في الحال عناوين كتب كثيرة من هذا القبيل ، وعاد بي الفكر إلى محاولة سابقة حاولتها لوضع قائمة إحصائية لهذا النوع من الانتاج العلمي، ليتبين ما قطعناه من هذه السبيل، وما يتطلبه العمل في هذا الميدان من منهج متطور وما ينبغي أن يتوفر له من ظروف نشر وطباعة وتوزيع وتشجيع، حتى تكون هذه الصناعة الضرورية للتقدم العلمي في مجال الدراسات الحضارية مزدهرة.
ورأيت في الكتاب كذلك صورة من صور التعاون العلمي بين رجال الجامعة. وذلك أن اشتراك ثلاثة أساتذة في تحقيق مخطوط هو سابقة جديرة بالتنويه، لأنه بقطع النظر عن حجم الكتاب، فإن البحث العلمي في تونس في ميدان العلوم الإنسانية لا يزال يشكو الفردية وانعدام فكرة تقسيم العمل بين أفراد مجموعة متجانسة أو بين مجموعات متكاملة فيما بينها. وذلك حتى في المشاريع التي لا يمكن أن تقوم على العمل الفردي.. ولعل ذلك يرجع من بعض وجوهه إلى كون العمل المشترك في مجال البحوث والدراسات يعتبر مظهراً متطوراً من مظاهر الحياة العلمية.
ولأنه بالفعل مظهر من مظاهر الحياة العلمية المتقدمة، يتطلب العمل الجماعي سواء في ميدان تحقيق المخطوطات أو غيره قدرا من التدقيق والتنسيق وإلا ظهرت عليه أعراض الاضطراب والتشتت وأضحى لا ينوبه من مزايا العمل المشترك الا الاسم، بل هو عمل قيّم فيه من مزايا العمل المشترك ومساويه الكثير والقليل.
ونحن أحرص على ذكر المحاسن قبل المآخذ إذ الذي يعرف الزملاء الثلاثة مثلي يدرك ما للثلاثة من فضل على الدراسات الفاطمية، سواء في باب العقيدة أو الأدب أو التاريخ ويلمس آثار ذلك بارزة في عملهم على هذا الكتاب.
وإن الذي يعرف مثلي قصة مخطوط كتاب المجالس والمسايرات وشيوع نسخ منه ومصورات بأيدي الباحثين، واتصال نيات غير واحد من محققي التراث بتحقيقه ونشره، يدرك مدى تصميم هؤلاء الزملاء الذين - وإن كانوا اتصلوا بآخرة بأمر هذا المخطوط - لم يردّهم في سبيل نشره تحرج من سابق تقدّمهم بالنية في تحقيقه أو مصرّح بالعمل في تحقيقه منذ مدة.
وسواء تطلبنا أو لم نتطلب مناسبة وراء هذا الكتاب شجعت على نشره من قريب أو من بعيد فلا نستطيع أن ننسى أن وزارة الثقافة عندنا بدأت من أكثر من أربع سنوات تعقد ندوات دورية باسم القاضي النعان لدراسة تراث الفاطميين من خلال مؤلفات هذا الرجل العظيم من علمائهم ومن خلال تراثهم كله في المشرق والمغرب.
حتى أنه اغتنم أكثر من مشارك في ندوات القاضي النعمان حضور وفد البهرة ورثاء الفاطميين اليوم في الهند ولهم سلطنة هناك، ليحدثهم عن هذا المخطوط أو ذاك مما يعلم وجوده بحوزتهم أو ليحاول عندهم ما يساعده على تحقيق مخطوط قد تكون لديهم منه نسخة موثوقة.
وأتذكر أنه ذكر يوماً من أيام تلك الندوات أمر المجالس والمسايرات أمام عظمة شقيق سلطان البهرة. وكأنما كان قصد المتحدث أن يسره بخبر اشتغال جماعة من الجامعيين التونسيين بتحقيقه ونشره، مع التأميل في أن يفضي الحديث إلى شيء من التعاون العلمي بينه وبينهم، يفيد منه الكتاب خاصة بمقابلته على ما قد يكون في خزائنهم من نسخه أصح وأوثق.
وفهمت من الشيخ أنه كان منشغلاً أكثر بما لاحظه من دعوى جمهور من الباحثين شرقاً وغرباً بوقوع مخطوطات فاطمية أصيلة بأيديهم وانكبابهم بل وتعجلهم على تحقيقها دون رجوع إلى علم الفاطميين والى كتب الفاطميين أنفسهم، أي دون شدّ الرحال إلى علماء الفاطميين اليوم بالبهرة ودون الرجوع إلى ما في خزائنهم من كتب ليس في الأرض أوثق وأصح منها.
وأذكر أني ما رأيت الشيخ بعد ذلك وكلما عرض حديث عن تأليف الفاطميين المطبوعة في لبنان ومصر وغيرها إلا وهو يكثر العجب من جراءة أصحابها على معالجة ما ليس لديهم به علم ولا تحقيق من عقائد الفاطميين وتاريخهم.
وفهمت منذ ذلك الحين شيئاً من قلة ارتياحه لبعض من كان يلقى من محاضرات في الندوة، ربما لخروج أصحابها فيها أحياناً عن حد مراعاة مقامه. ولكنه كان في غاية من كتمان انفعاله بما يسمع. إلى أن كانت محاضرة مثيرة لأحد الزملاء ممن ذهبت بهم المنهجية والموضوعية - بزعمهم - إلى قلة الالتفات إلى ما سوى الاعتداد بما قرروا وما حكموا به في قضايا الإسماعلية والإسماعيليين. فرأيت الشيخ الجليل يغادر. فقيل لي إنه خرج للصلاة. فخشيت أن يكون الضيق بالمحاضرة قد أعجله قبل الضيق في وقت الصلاة!
ووجدته بعد ذلك وقد أنس إليّ قليلاً فكان مما قال لي: إني يا أخي في حيرة من أمر ندوتكم هذه ما الهدف منها؟ وفي حيرة كذلك من أمر دعوتكم إياي بالحضور، هل تريدون أن تعلّمونا أمور مذهبنا أن تريدون أن تتعلموا عنها أمور مذهبنا ؟ هل نحن في ندوة لتدارس مؤلفات القاضي النعمان، أم في قاعة بحث أكاديمي يطلق فيها كل لنفسه عنان الفروض والتصورات حول مذهبنا ونحن علماؤه وورثته حضور..؟
فهوّنت عليه شيئاً وقلت له كلاماً حضرني اعتقدت أن يكون له فيه مقنع ولنا معذر.
***
وإنما استطردت هنا إلى ذكر شيء من الانطباعات عن ندوة القاضي النعمان بالمهدية بمناسبة ما أثاره في نفسي تحقيق كتابه المجالس والمسايرات. ولما وقفت عليه للمحققين الثلاثة في مقدمتهم للكتاب وفي حواشيه من آراء وتعليقات مثّلت أمامي شيئاً من مآخذ ذلك الشيخ من البهرة على المشتغلين بالتراث الفاطمي من عامة الباحثين والمحققين.
وذلك أن جانباً من تلك الآراء قائم في مواضع على تخمينات وظنون، وفي مواضع أخرى على قراءة غير صحيحة في المخطوط، وفي مواضع غير هذه وتلك على أنظار سُنية قد تكون سقطت للمحقيق أو أحدهم من التراث أو ولدتها نواح اعتقادية لديهم، وصادفتُ كذلك آراء إذا لم تكن قائمة على شيء مما تقدم فلا تعدو أن يكون ولّدها تطلّع طبيعي ـ يكون مبالغاً فيه أحياناً ـ في نفس كل مشتغل بالتراث للعثور على مواطن طرافة وجدّة في بحوثه.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: