د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5618
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
بطلب من إدارة مهرجان مدينة حمام الأنف، قمت بإعداد هذه المداخلة للبحث في مسألة الحراك الفنّي والثّقافي بالمدينة، ونظرا لسوء تفاهم حول موعد تقديمها بدار الثّقافة، لم يتمّ تقديمها، فقرّرت تحويلها من شكل مداخلة إلى نصّ مقال أعرضه من خلاله على القرّاء الكرام رؤيتي فيما يتعلق بركود النّشاط الثّقافي الذي تشهده المدينة لسنوات عديدة.
في البداية أوّد أن أشير إلى أنّنا أمام مسألة شديدة التّعقيد وما كان يجب أن تكون كذلك. إنّه البحث في علاقة البديهي (الثّقافة) بالمستحدث (التّنشيط الثّقافي ومتطلباته) بتونس عموما وبمدينة حمام الأنف خصوصا، علما وأنّ الثّقافة أسبق من العلم في تفضيل الإنسان على سائر المخلوقات. إنّ التّفكر في هذا الموضوع يوحي بوجود إشكال يخّص هذه المسألة.
لذا اخترت الانطلاق من استعارة مفهومين رئيسيين من الأدابيات الماركسية، لعرض وجهة نظر علم اجتماع الثّقافة بوضوح شديد. يتعلّق المهوم الأول بالبنية التحتية أي مجموع العلاقات القائمة في حقل الإنتاج وعمليات التّبادل والتّوزيع وعلاقات الملكية التي تكوّن الأرضية الاقتصادية لأي بلد. أمّا المفهوم الثّاني فهو مفهوم البنية الفوقية والمقصود منه مجموعة الأفكار السّوسيولوجية والثّقافية والسّياسية والحقوقية والفلسفية، الصّادرة عن الجهات صاحبة القرار التي تنظّر وتخطّط الحياة الثّقافية، وهي مختلف أجهزة الدّولة وعلى رأسها الحزب الحاكم، إلى جانب المؤسسات التّنفيذية التّابعة لهما من تربوية وثقافية التي تنحت مجتمعة الشّخصية القاعدية للمجتمع. وبعارة آخرى البنية الفوقية هي مجال صناعة القوى البشرية الفاعلة، بما تمتلكه من عادات وتقاليد، وتراث، وتصوّرات، وتجارب، وأفكار، وإبداعات في كلّ مجالات الحياة، وقدرتها على التّأثير والتّأثر بالثّقافات الآخرى.
هذا اجمالا النّموذج الكلاسيكي للفكر الماركسي، وكنت قد اقترحت تغييره في مقال بعنوان حوار في الثّقافة جاء فيه: " لقد دفعتني الثّورة التّونسية لمراجعة عديد النّظريات الغربية ومفاهيمها بالنّقد وفي مقدمتها النّظرية الماركسية التي جعلت من الاقتصاد والعمل بالسّاعد بنية تحتية ومن الثقافة والعمل بالفكر بنية فوقية. في مثل ظرفنا الرّاهن، يصحّ لنا وقد أكون مخطئا، أن نقلب المفهومين ونجعل" في تونس" من البنية التحتية، حاضنة العمل الثقافي بجميع أصنافه ومكوّناته، لنقيم ونبني عليها صرح البنية الفوقية. قد يكون في هذا الرأي شيئا من التّرف الفكري، الذي أعدّه ضروريا لإعادة صياغة المخيال التّونسي الفردي والجماعي، لتقريب الشّقة بين أجيال متشضّية الرؤى، متوترة الأعصاب، متنافرة الأفكار ومتصارعة الأهواء"(2).
تنقسم الثّقافة إلى جزأين، جزء مرئي وجزء لامرئي، كما هو الشّأن في جبل الجليد، وأنّ الجزء الخفي في الحالتين أهّم وأخطر من الجزء الظّاهر، المحمول كليّة على كاهل الجزء السّفلي، هذا ما لم يدركه أصحاب القرار السّياسي لأكثر من ستة عقود مرّت على استقلال البلاد التّونسية.
وفي اعتقادي لو قامت الدّولة الوطنية بوضع البنية الفوقية (الثّقافة) مكان البنية التّحتية (الإقتصاد)، وبادرت ببناء شخصية قاعدية، قادرة على تبنّي التّغيير الشّامل، لتحررّت الثّقافة من قيود إرادة سياسية ورؤاها الضّيقة مهما حسنت نواياها، لتنخرط طوعا في مسار الحداثة باعتبارها فاعلة لا متفاعلة. لذا نقول إنّ تحرير الثّقافة والتّشجيع على الإبداع والخلق، يحقّق انطلاقة الإقتصاد بخطوات متئدة وثابتة، تستجيب لحاجيات المجتمع الحقيقية لا المفتعلة.
لكن الدّولة الوطنية بعد الاستقلال أولت كلّ اهتماماتها لتنمية كانت ولا تزال تعبّر عن رغبات سياسية، أسقطها أصحابها عنوة على أرضية ثقافية تقليدية، تهيمن عليها نواتات صلبة، مقاومة للتّحديث ومتوجسة من كلّ تغيّير. لقد أعاق تقديم الاقتصادي على الثّقافي تحت مظّلة السّياسي في مجتمعاتنا العربية الإسلامية عموما وفي المجتمع التّونسي خصوصا سياق العملية التّنموية برمّتها، وأحدث انفصاما فردي وجماعي بين تنمية مصطنعة وثقافة متأصّلة. وبالتّالي لم ينل تلك الشّعوب من التّنمية إلاّ قشورها، في نفس الوقت فقدت ذات الشّعوب جلّ مرجعياتها الثّقافية والعقدية والرّوحية. لذلك نقول إنّ تشويه ثقافة الشّعوب يفضي إلى تخلفها وتعثّر تنميتها.
في الأنظمة الشمولية يفرض على الشّعوب استهلاك منتج ثقافي محدّد، بمعزل عن إرادتها وميولاتها ورغباتها الفكرية والسّياسية. من هنا اتخذت الثّقافة بُعْدَهَا المؤسساتي المقيِّد لوظيفتها الرئيسية والتي هي برأينا (التّحرير والتّنوير)، فانحبست في رؤية وفكر ثلّة من الفاعلين أصحاب القرار، تنبع منها وتعود إليها، بعيدا عن إرادة المبدع ورغبة الجماهير. لقد تعسفت أجهزة الدّولة على روح المثقّف فحوّلته إلى أجير، واستبدت بوجدان الجمهور فحوّلته إلى مستهلك لبضاعة مسبقة الإعداد.
أضّرت مأسسة الثّقافة وتبضيعها بالدّولة والمجتمع والمثقف، فأوقعت بالجميع في محاظير أهما:
1/ اخضاع الثّقافي إلى السّياسي بواسطة بيروقراطية مكتملة ومتكاملة الأركان، دجّنت العديد من المثقفين ووظّفت طاقاتهم الإبداعية في خدمة أغراض سياسية.
2/ تغليب الجانب الاستعراضي للثّقافة على حساب الجانب الإبداعي الكامن في أعماق الشّخصية التّونسية، حتى خرجت علينا الدّولة في تسعينات القرن الماضي بشعار (تونس ترقص وتغنّي).
3/ تقديم الفرع على الأصل في المجال الثّقافي، أي تقديس المكسب وتحقير الإبداع، فانحرفت وظيفة الثّقافة من التّنوير إلى الاسترزاق، فسقطت مكانتها آليا في التّصورات الاجتماعية.
4/ خلق حالة من الذّهان psychose المتبادل بين السّياسي والمبدع، جعلت الأول يضيّق الخناق على الثّاني لم يبق أمامه سوى الانصياع أو الإنزواء أو المقاومة أو الهجرة.
5/ تفعيل الثّقافة الموسمية (مهرجانات صيفية وبعض المهرجانات المتخصّصة في السينما والمسرح) وتعطيل الثّقافة الشّعبية العميقة والمستديمة.
6/ توزيع غير عادل للأنشطة الثّقافية (على علّتها) بين مختلف جهات الجمهورية، بإخضاعها إلى مقاييس يحسبها واضعوها موضوعية.
في هذا السّياق لم تحظى مدينة حمام الأنف من الثّقافة الرّسمية إلا بنزر يسير، لم يتعدّى مهرجان بوقرنين ومهرجان علي بن عياد للمسرح، في حين أصيبت باقي الأنشطة الثّقافية بالشّلل حيث:
1/ اختفت بشكل شبه كلّي دور عرض السينما التي كانت في المدينة، فتحوّل بعضها إلى مقاهي شعبية وبعضها الآخر إلى محلاّت لبيع السّلع.
2/ لا يوجد بالمدينة قاعة لعرض الفّن التّشكيلي.
3/ لا يوجد مسرح مغطّى إلا مدرّج دار الثّقافة... الخ
أما في جانب التّراث فإنّ التّوانسة عموما وسكّان مدينة حمام الأنف خصوصا قد يجهلون قيمتها الأثرية التي لا تقلّ شأنا عن مدينة قرطاج، في هذا المجال يذكر موقع safari.com السّياحي على صفحته الإلكترونية قوله: "عرفت مدينة حمّام الأنف منذ القديم باسم"نارو "NAROوهي "بونيّة" الأصل برزت كقرية صغيرة متواضعة، إشتهرت بعيون معدنية تنبع من سفح جبل (بوقرنين) جبل "BAAL –KARNEINE" ومعناه في اللغة الفينيقية "إله صاحب القرنين" الذي اشتهر في العهد القرطاجي. وقد وقع العثور على معبده وتم مزجه بالإله الروماني "SATURNE" (القرن الثاني والثالث ميلادي) إلى جانب العديد من النقائش. وقد اكتشفت بالمدينة آثار لمعابد مسيحية ويهودية، أثناء حفريات تمّت في أواخر القرن التاسع عشر. وفي بداية سنة 1999 تمّ اكتشاف حي صناعي يرجع إلى العهدين الرّوماني والبيزنطي (من القرن الثالث إلى السابع ميلادي) يضم أنقاض منشآت يرجّح أنّها كانت مخصّصة لصبغ الملابس أو الجلد. كما تمّ اكتشاف معبد مسيحي محاذ لهذه المنشآت الصناعية ومعصرة خمر وورشة لصناعة البلور، وهي معالم تشهد على وجود حي صناعي هام في هذه المنطقة التابعة للمدينة القديمة."
وتبقى أسئلة كثيرة عالقة تنتظر الإجابة: أين كلّ هذه الآثار وأين مواقعها؟ أين قصور وزراء العهد الحسيني؟ لماذا لم تتعهدها سلطة الإشراف بالصّيانة ولم يقع إحياؤها؟ لماذا حجبتها وزارة الثّقافة والتّراث عن العموم ولم تجعل منها مزارات ثقافية و/أو سياحية كما هو شأن بالنّسبة لقرطاج؟
في هذا الصدّد نذّكر بأنّ المعالم الأثرية المعلومة توشك على الاندثار، مثل القصر الحسيني الذي شيّده حسين بن علي باشا مؤسس الدّولة الحسينية عام 1750م وقد تحوّل إلى "وكالة" سكنية. فأين هذا القصر من قصر باردو أو قصر السّعادة بالمرسى الذي تحوّل إلى قصر الضّيافة، تستقبل فيه الدّولة ضيوفها الرّسميين؟.
أمّا الكازينو وهو معلم أثري بني في عهد الحماية، ويتمتع بموقه الجميل الذي يطّل على شاطئ الجنوبي لخليج تونس، فهو آيل للسقوط إن لم تتعهده وزارة الإشراف بالتّرميم والصّيانة، وتحوّله إلى مركز ثقافي دولي، أو إلى فندق متخصص في سياحة المؤتمرات والأعمال، ما دام لا يوجد نزلا وحدا بالمدينة.
ذات المصير تلاقيه الحمّامات المعدنية التي بقيت على حالها، ولم تتطوّر إلى مراكز استشفائية على غرار محطّاطات قربص وجبل الوسط، فتكون نقاط استقطاب الزوّار الطّالبين للاستجمام والعلاج، بما يخلق حراكا اقتصادا وثقافيا لو أنّها صادفت فكرا مستنيرا.
عند هذا الحدّ نلتقي بمفهوم التّنشيط الثّقافي الذي ينفتح على تعاريف متعددة، منها: " إضفاء الحيوية والنّشاط على الجماعة السّكنية بهدف توسيع مجال التّواصل بين أفرادها، للرّفع من فعاليتها بالمشاركة في الحياة العامة، لكسر إنطوء وعزلة المثقف المغمور داخل الجماعة"(3).
تَنْشُّطُ الثّقافة بالتّواصل الأفقي بين الأفراد دون تمييز ولا إقصاء، بإتاحة الفرصة لكل من يأنس في نفسه القدرة على التّعبير عن أفكاره، وعرض مواهبه الفنّية، فتنشأ تفاعلية بين المرسل (المبدع) والمتلقي (الجمهور) من ناحية، ويتمّ فيها تبادل الخبرات والتّجارب بين المثقّفين أنفسهم من ناحية أخرى، فيرتقي الذّوق الجماعي ويسمو الحّس الفنّي ويقوى بها الشّعور العام بالانتماء للجماعة.
رغم الجهود والتّضحيات التي يبذلها المشرفون على الشّأن الثّقافي بحمام الأنف من موظّفين ومتطّوعين مغرمين بالثّقافة، فإنّ لدى بعضهم شيء من الإحباط لغيرتهم على مدينتهم السّاحلية، الأثرية التي كانت في يوم من الأيام منتجع الملوك والأمراء وعاصمة حكم الإيالة التّونسية, والسّبب في ذلك:
أنّ هذه المدينة السّاحلية والجبلية الخلاّبة لم تنل حظّها في التّنمية الثّقافية والسّياحية، فأصاب شواطئها السّاحرة الإهمال والموات، وحلّ (الخراب) ببعض معالمها الأثرية، ولفّ النّسيان بعضها الآخر.
مدينة تشكو من ركود الحياة الثّقافية على امتداد سنين طويلة، لا تكاد تخطئه العين المجرّدة، لعل هذا من الأسباب التي دفعتني لتحليل الوضع الثّقافي لمدينةحمام الأنف، واقتراح حلول من خلال مفهوم التّنشيط الثّقافي.
لمعالجة هذه الظّاهرة المرضية/المأساوية لا بد من البحث في أهمّ أسبابها التي ألخّصها في:
1/ الطّمس المتعمّد لشّخصية المنصف باي الوطنية رحمه الله، الملك الصالح الذي استقر حبّه في قلوب رعاياه، واحتل مكانة عالية في نفوسهم. كان التّاريخ المشّرف للمنصف باي مصدر قلق لبعض رموز الدّولة الوطنية التي احتكرت الحركة الوطنية في نضالها، واختصرت تاريخ البلاد التّونسية في شخصها. انعكست سياسة محو الفترة الحسينية عموما وتاريخ المنصف باي خصوصا من الذّاكرة الجماعية، سلبا على مدينة كانت لفترة قصيرة عاصمة حكمه، فأصابها من التّهميش ما أصابه ولفّها النّسيان كما لفّه.
2/ ساهم تخلّي الأرسطقراطية (الحمام أنفية) عن حماية المدينة وتركها لبارونات السّلطة الذين حوّلوها إلى ما يشبه المقاطعة، فهجروها إلى أحياء جديدة، تاركين مجالها الحيوي لجحافل الوافدين عليها من أبوابها ومن ظهورها. تولّد عن ذلك نسيج اجتماعي غير متجانس، استبدلت فيه علاقات الدّم والنّسب والمصاهرة بعلاقات جوار في كنف دولة وطنية، فكّكت أركان المجتمع التّقليدي وحقّرت مرجعياته. ولا أبلغ هنا من التّذكير بحادثة وقعت في نهاية السبعينات بضاحية سيدي بوسعيد، حين عرض نزل "دار زروق" للبيع بالمزاد العلني وأرسى العرض على صانع البانبلوني(*)، إلا أن أرسطقراطية سيدي بوسعيد (دار الشّريف مثلا) أوقفت العملية ومنعته من شراء ذلك المعلم التّاريخي لأنّه دخيل على المدينة.
3/ أصببت مدينة حمام الأنف بحالة من التّنكير الجماعي " anonymat collectif" شمل تاريخها وأعلامها ومعالمها، وجعلت منها محلّ سكن لقادمين بلا انتماء. فقد أصابها ما أصاب كلّ المدن التّونسية الكبرى والسّاحلية مع بعض الفوارق الاقتصادية والصناعية التي ينعم بها السّاحل التّونسي. فأضحت حمام الأنف مدينة بلا هوية سوسيو-ثقافية وتاريخية.
قد يظّن البعض أن لا صلة بين ما تقدّم وعنوان المقال المخصّص لمتطلبات التّنشيط الثّقافي، لكن لو تأملنا في النّقاط التي ذَكَرْتُ، وهي أصل الإخلالات التي لحقت بمدينة حمام الأنف وغيرها من المدن السّاحلية التّونسية، لشاطرني القارئ الرأي في أنّ التّنشيط الثّقافي يبدأ بتصحيح تاريخ المدينة وإعادة الإعتبار إليها وإلى معالمها وإلى رموزها.
قالت العرب في أمثالها" إذا عُرِفَ السّبب بَطُلَ العجب"، ومعرفة السّبب بل الأسباب تتطّلب جهدا معرفيا، متعدّد التّخصصات حتى لا تحجب الوسيلة الغاية، كما تحجب الشّجرة الغابة.
إنّ إستراتيجية إحياء مدينة حمام الأنف ثقافيا ورفع ما لحق بها من ظلم وغبن بغير جريرة، حتى تسترد مجدها وإشعاعها وبريقها، الذي جاء على لسان الأستاذ عبد المنعم الشّاوش في قوله: "حمام الأنف مدينة السيكلمان تَغَزَّلَ بها الشّعراء، وكتب عنها الرّحالة، وتحدّث عنها العلماء، واهتمّ بها الزّعماء، وهام بها أهلها الأوّلون واللاّحقون، خلّدها التّاريخ عدّة مرّات قبل الميلاد، ومع البايات، وفي الحرب العالمية الثّانية وفي عهد الاستقلال. حمام الأنف مدينة السّلام وينبوع المعرفة والعطاء".
يمكن اعتبار هذه الكلمات مدخلا لمتطلبات تنشيط ثقافي يبدأ:
1/ بوضع خارطة ثقافية دقيقة، تضّم كلّ المعالم التّاريخية للمدينة وحصر مثقفيها القدامى والمعاصرين للتّعريف بهم وبمواقفهم وآرائهم ورؤاهم.
2/ تشكيل فرق عمل من المتخصّصين في التّاريخ والتّراث والآثار يدفعهم حبّهم للمدينة وغيرتهم على مجدها وأمجادها، يجمّعون الأدابيات التي تحدّثت عن حمام الأنف (نثرا وشعرا)، والعمل على إدراج أفضلها في البرامج المدرسية، كما كان في الماضي، حيث أدرجت بعض النّصوص الأدبية في كتب القراءة المخصّصة لتلاميذ الصّف الثالث ابتدائي في ستينات القرن العشرين.
3/ دعم الأنشطة الثّقافية القائمة مثل مهرجان بوقرنين الدّولي ومهرجان علي بن عياد للمسرح في ظلّ المركزية الحالية.
4/ إقامة ندوات ثقافية وعلمية منفتحة على الدّاخل والخارج، تعيد صياغة الوعي الجمعي وتحرّره من إبتذال التّكرار وإعادة الإنتاج الممنهج.
5/ التّركيز على التّنوع البيئي للمدينة من جبال تنفرد بثنائية المياه العذبة والمياه المعدنية السّاخنة، شواطئ رملية جميلة، حديقة وطنية ثرية بحيواناتها، وطيورها، وغطاء نّباتي، ينفرّد ببعض الأشجار النّادرة مثل شجرة بخور مريم الفارسي المسمى (السيكلمان) وشجرة (عرعار بوهبرة).
6/ إرساء تدريجي للامحورية إدارية، تفصل الثّقافة عن السّياسة والأحزاب، تضمن استقلالية الفرق المقترح تشكيلها، ماليا وفكريا عن سلطة مركزية منشغلة عن الثّقافة بسياسية لم تتحرّج في تخفيض ميزانية الوزارة بأكثر من 4 سنة 2012.
خطوات مضنية غير أنّها ضرورية لإحياء وتنمية وتوحيد رأس المال الرّمزي للمدينة، يجدّد مفهوم القدوة في مخيال ناشئتها ويقوي شعورهم بالانتماء إليها. ليس من السّهل محو عقود من التّهميش و(إقطاعية) حرمت المدينة من حقّها في أن تكون مركز ولاية تسمّى باسمها (ولاية حمام الأنف).
يبدو واضحا أرقّ المسؤولين في الجهة وخوفهم على مدينتهم من الفوضى والتّفكك، في ظلّ حمّى ثورية لم تنخفض بَعْدُ، لذا تراهم منفتحين على كلّ الأفكار التي من شأنها أن تعيد للمدينة نضارتها وإشعاعها ومكانتها ودورها في الثّقافة والاقتصاد والاجتماع.
رؤية استشرافية غير مسبوقة، وحسّ معرفي مرهف وحركة استباقية تحلّت بها هذه النّخبة المتميّزة التي تستحق كلّ إكبار وتحية على تجديدهم لأسلوب العمل في الحقل الثّقافي، وبحثهم المعمّق لوضع أسّس ثورة ثقافية تسّد الثّغرة الرئيسية في الثّورة التّونسية. التقى فكر هذه النّخبة بمقدمة المداخلة ( تقديم البنية التّحتية على البنية الفوقية)، لتكون الرّافعة الحقيقية للتقدّم والمحرك الفعلي للتغيّير.
قد يسهم تجديد مفهوم التّنشيط الثّقافي والبحث في متطلّباته الإجرائية في تغيّير النّظرة السّائدة للثّقافة واعتبارها مجال ترفيه ولهو وتغيّيب، وخلق إستراتيجية جادة لنحت شخصية تونسية قاعدية ثورية. نقف أمام أولى الخطوات العقلانية التي ستؤدي حتما إلى التّقدم الشّامل، وهي تنطلق فعلا من أعرق المدن التّونسية حمام الأنف التي قال فيها ابن رشيق القيرواني:
الله مبدعها والله واهبها
حسن الطّبيعة في شمّ وفي بصر
يضمّها الجبل العالي ويلثمها
لثم المحبّ لذات الغنج والحور
وفي شريانه الفوّار منبجس
يشفي العليل من الأسقام والكدر
بهذه الأبيات الرّقيقة أنهي هذا المقال الذي ولدّته الصّدفة حول مفهوم التّنشيط الثّقافي ومتطّلباته في (زهرة المدائن) كما سمّها الشاعر عبد الرحمان الكبلوطي.
---------------
1) حَمّام الأَنْف مدينة ساحلية تونسية تقع على مسافة 16 كم جنوبي شرقي العاصمة. يبلغ عدد سكانها 49.190 نسمة حسب تعداد سنة 2004. تستمد المدينة اسمها من عيني ماء حارتين تقعان في سفح جبل بوقرنين.
2) المقال منشور على موقع بوابتي الإلكتروني بنفس التاريخ وفي كتاب: تأملات في السّياسة والاجتماع. عامان في ظلّ الثّورة التّونسية، عن دار المجال للنّشر تونس 2013
3) التعريف لكاتب المقال.
*) البنبالوني، نوع من الفطائر المقلية في الزيبت والمحلاة بالسكر.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: