د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5274
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تقديــــم
أعود للكتابة في الشأن العربي بعد غياب طال نسبيا لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية، لأجد نفسي أكتب في الوحدة العربية. قد يتساءل البعض عن دوافع اختيار هذا الموضوع الذي يبدو غير ذي معنى في زمن الفرقة العربية؟ أريد في البداية توضيح ما قصدته بالوحدة. لقد عنيت التّوحد العربي في المآسي وليس الوحدة في ظلّ دولة فدرالية أو كنفيدرالية مثلا، تنهض بالمجتمع فقرائه قبل أغنيائه، وتضمن للجميع حياة كريمة "vie décente"، والفرق بين المفهومين شاسع بطبيعة الحال، ليظّل المعنى المقصود "نحن في الهمّ واحد".
استفدت من فترة احتجابي لأتأمل (قدر المستطاع) في أوضاع المجتمعات العربية مستعينا بخارطة هذا العالم، لأتابع على طريقة أركان الجيش، مجريات الأحداث المتسارعة والمتزاحمة على أراضه. هي محاولة للإجابة عن سؤال تقليدي وجوهري، ما هي أسباب أوجاع وهموم العالم العربي في الزّمن الرّاهن؟ وما هي عناصر التّشابه التي تجمّعنا وعناصر التّمايز التي تفرّقنا؟ لم أجد غير محورين أساسيين لبحث هذه الإشكالية هما: المحور الاجتماعي والمحور السّياسي، وما يرتبط بكلّ منهما من أفرع ثانوية لا تقّل عن الأصلية أهمية وخطورة، من خلال فرضيات قد تبيّن مدى صحتها من خطئها.
تتعلق الفرضية الأولى بتآكل الطبقة الوسطى وتراجع دورها في الفعل التّاريخي الإيجابي. وتتصلّ الفرضية الثّانية بالدّور التّاريخي للبورجوازية الصغيرة الحاكمة التي تشرنقت إلى بورجوازية دولة(*) في تغيّير النّسيج الاجتماعي التّقليدي لهذه الدّول، وتشويه مرجعياتها القيمية في محاولة منها لتحديث مجتمعاتها بشكل متسارع وغير محسوب العواقب.
إنّها محاولة متواضعة أقدّم من خلالها قراءة تحليلية، استقرائية واستنتاجية لطبيعة العلاقات المتشابكة بين المحور الأساسي وفروعه من جهة، وبين المحورين المشار إليهما من جهة أخرى، عسى أن نقف على الآليات الخفيّة التي أدّت بنا إلى ما نحن فيه من تفكّك، أوصل بعض الدّول العربية إلى الانقسام على نفسها إلى دولتين، وسيؤدي ببعضها الآخر إلى الانقسام إلى أكثر من ذلك.
1/ المحور الاجتماعي
بمجرد التّأمل في الخارطة الاجتماعية للعالم العربي الممتد من المحيط إلى الخليج، يلفت انتباه الباحث، خلو هذه المجتمعات بشكل شبه تام من وجود طبقة وسطى. لقد شهدت المجتمعات العربية في العقود الأخيرة استقطابا ثنائيا على طريقة الانقسام الخلوي" la division cellulaire ". وهي ظاهرة لم تعرفها مجتمعاتنا على مرّ العصور، اتخذت على إثرها شكلا يشبه إلى حدّ كبير رقم 8. يتركّب من شريحة من الأثرياء قد تتسع وقد تضيق من بلد إلى آخر، من تحتها طبقة عريضة ومتضخمة من الفقراء في تنام مستمر ومتسارع إلى حدّ الغثيان. أمّا الطبقة الوسطى فقد تقلّصت وضعفت جدّا، بما ينبئ بقدوم انقسامات في جسد الدّولة العربية على نفسها إلى دولتين ومجتمعين أو أكثر، يليه انفصال، فاستقلال كل جزء بذاته عن الجزء الآخر .
يفرض المنهج المقارن نفسه على التّحليل السّوسيولوجي الموضوعي، بعيدا عن الاعتباطية، بين الانقسام الخلوي وما يحدث في العالم العربي، لتقديم شرح مدّعم بأمثلة فعلية لا إفتراضية، تحدث على أرض الواقع في دول عربية مثل العراق وليبيا واليمن وسوريا، وما السّودان منّا ببعيد. لقد مرّ السودان بالأطوار الخمسة للانقسام الخلوي، فإن كانت هذه العملية حيوية وبناءة في علم الأحياء، فإنّها على العكس من ذلك في علم الاجتماع والسّياسة. هنا لابد من التّذكير بمراحل الانقسام الخمسة للانقسام الميتوزي"mitose" لتوضيح ما يجري في العالم العربي، راجيا أن لا تشهد بعض الدول العربية انقساما ميوزي"miose" كما في الخلايا التّناسلية التي تنقسم إلى ملايين الخلايا مختلفة النسيج والوظيفة.
أطوار انقسام الخلية في الجسم
1/ الطّور البيني Interphase: وهو طور تبدو فيها الخلية في حالة وظيفية "état fonctionnel" مستقرة، لا تنبئ بما يحدث بداخلها من تحوّلات بنيوية جوهرية "changements structuraux intrinsèques" تحقّق حتما انقسام ميتوزي أو ميوزي. يقابل هذا الطّور في المجتمعات الإنسانية (مع مراعاة المقارنة)، توّفر قدر كبير من التّوازن البّنيوي/الوظيفي "équilibre structuro-fonctionnel" يعّم المجتمع الأم، يعكس على سطح حالة من الاستقرار والأمن الاجتماعيين. يحجب التّوازن الاجتماعي الهّش، إرهاصات بعض الاخلالات البنيوية الجوهرية تتّم تحت السّطح الهادئ، ألخّصها في مقولة ( دعه يفسد ودعه يمر). وهذا أوّل شرط موضوعي "condition objective" لانطلاق العملية الانقسامية على مستوى الدّول في بطء وثابت.
2/ الطّور التّمهيدي Prophase: وفيه يبدأ السّياق الفعلي للانقسام الخلوي بالتّدرج. هذا ما أحدثته البورجوازية الصغيرة الحاكمة في الدّول الوطنية العربية مذ تولّت السّلطة في منتصف القرن العشرين. فباسم التّنمية والتّقدّم والوطنية، زجّت تلك الشّريحة الهجينة، المنسلخة عن أصولها الاجتماعية (الطبقة الوسطى)، بمجتمعات ما قبل رأسمالية " sociètés pré-capitalistes" في سياق حداثة لم تكن مهيأة لها اجتماعيا وسياسيا وثقافيا وحضاريا ونفسيا.
نفّذت بورجوازية الدولة مخطّطات تحديثية، متسّرعة، ظاهرها سليم وباطنها سقيم "morbide"، مستعينة بخبرات خارجية، نجحت في الحدّ من القوّة العددية للطّبقة الوسطى مصدر الثّقل السّياسي لهذه الطّبقة، بتفقيرها والتّضييق عليها اقتصاديا باعتبارها الرّافعة الأساسية للمجتمع، صانعة التّغيير ومحرّكة التّاريخ من ناحية، والعدو التّقليدي لبورجوازية الدّولة الحاكمة. في هذه المرحلة بدأت المجتمعات العربية تفقد توازنها الطّبقي في ظلّ سياسة تحديد النّسل، الموجهة ضدّ الطّبقات الاجتماعية الوسطى والفقيرة، نتيجة حرب إبادة مالتوزية(1)، هادئة، متئدة، شنّها عليها الغرب بأيادي عربية من خلال برامج تنظيم الأسرة وتحديد النّسل... فتوفّر بذلك أوّل شرط موضوعي لانقسام بعض الدّول العربية إلى دويلات، تمهيدا لإعادة رسم خارطة جديدة لهذا العالم وهو ما نعيشه اليوم.
3/ الطّور الاستوائيMetaphase: يبدأ فيه وسط الخلية بالتآكل من الجانبين بشكل ملحوظ، وهو ما تمّ بالنّسبة للطبقة الوسطى التي دحيت، بفعل تحرّش الدّولة المركزية بها، وخنقها اقتصاديا وتهميشها سياسيا، وتشويهها ثقافيا، فيبدو عليها الاستقطاب الثنائي، فتستقطب شريحتها العليا نحو الأعلا محدثة شريحة الأغنياء الجدد ممن يطلق عليهم الوصوليون " les arrivistes" أو الانتهازيون "les opportunistes". أمّا غالبيتها فتتجه نحو الطبقة الفقرة، وهم المفقّرون " les appauvries".
استغرق نسق التّفقير الجماعي ملا يقّل عن أربعين عاما حتى ضاقت المجتمعات العربية ذرعا بهذا الوضع الشّاذ سوسيولوجيا، لتنقضّ على أول فرصة صادفتها، لتثور على الحكّام وزبانيتهم، وتطيح بأنظمة الاستبداد والفساد.
4/ الطّور الانفصالي Anaphase: وفيه تأخذ الخلية شكل خليتين متماستين، مستعدتين في لحظة محدّدة للانفصال عن بعضيهما. يقابل هذا الطّور بالنّسبة للمجتمعات البشرية حالة من الانتفاض الدّوري، وصل في بعض الدّول مثل يوغسلافيا والسّودان اشعال حرب أهلية، استوجبت الانفصال الفعلي، لتستقل بعده الفصائل المتحاربة إلى دويلات ومجتمعات كلّ داخل حدود متماسة مع نظيرتها، تمهيدا للطّور الأخير.
5/ الطّور النّهائيTélophase: إنّه الاستقلال الانفصال التّام والحقيقي بين الخليتين الجديدتين، لتمضي كلّ منهما في حياة جديدة، بنفس خصائص الخلية الأم في حالة الاتقسام الميتوزي، وبخصائص مغايرة في حالة الامقسام المميتوزي. وهو ما يقابله على مستوى المجتمعات البشرية، الاستقلال النهائي والتّام لكلّ دويلة، وسواء كان انقسام المجتمع ثنائيا أو متعددا، فإنّه يلقى الاعتراف الكامل من قبِل المجتمع الدّولي.
لقد أدّى هذا السّياق الانفصالي إلى تقسيم الاتحاد اليوغسلافي في 2006 بعد حرب أهلية دامت 15 سنة إلى دويلات منها كرواتيا وسلوفينيا وجمهورية مقدونيا وصربيا والجبل الأسود، وهو انقسام ميتزي. أمّ بالنّسبة للسّودان فإنّ الانقسام كان ميتوزيا على إثر خلاف ظاهره سياسي وعرقي بين المسيحيين والمسلمين اندلع سنة 1993 وتحوّل إلى حرب بين الطرفين دامت 18، انتهت سنة 2011 بالسّودان إلى دولتين، واحدة الجنوب وأخرى في الشّمال.
تتوافق هذه المراحل إلى حدّ بعيد بالدّور خلدوني في تأسيس الدّول ونهايتها (2)، لهذا اعتمدنا المنهج المقارن بين علم الخلايا وعلم الاجتماع لتقديم تفسير علمي، مدعوم بالحجّة والبيّنة التي لا تقبل الشّك على أنّ انقسام السّودان (كما أسلفنا) إلى دولتين، مرّ إلزاما بنفس الأطوار الطبيعية تحت نظر ومسمع المغفّلين. في نفس السّياق قطعت كلّ من اليمن والعراق وسوريا وليبيا أشواطا متقدّمة في العملية الانفصالية التي تسيير حسب خطّة دقيقة، وثابتة على مستقيم التّاريخ؛ بذات آلية الحرب الأهلية التي شهدتها السّودان، والتّحالفات الإقليمية والدّولية المعادية للوحدة من ناحية، والمؤيدة لمشروع الشّرق الأوسط الجديد من ناحية أخرى. مخطّط تسانده وتموّله قوى عربية مالية-رجعية-إرهابية-دموية، تشجّع على القتل على الانتماء، ليتلذّذ المجرمون بجزّ الرّقاب وقطع الأعناق واللّعب بالجماجم.
لقد عملت بورجوازيات الدولة العربية بغباء وعن جهل على التّفقير الجماعي الممنهج للطبقة الوسطى، محدثة بذلك اخلالات اجتماعية جسيمة، أفقدت الأمة مناعتها المجتمعية. لقد أدّى تخوّف الحكّام العرب من الطبقة الوسطى، وجهلها بأهمية دورها في تأمين الحياة الاجتماعية، وتأمين استمرارية الحكم إلى القضاء البطيء على أحد أركان دولتهم الرّكين. فانضمّ جزء من الفقراء إلى المعارضة السّياسية، وانزلق جزء آخر في دوغمائية العنف والإرهاب، هدفها القضاء على الدّولة الوطنية والمجتمع المدني، بعد أن أفتى شيوخه بتكفير وزندقة الاثنين معا، واستباحة دم مناصريهما، واستحلال أعرض المدافعين عنهما.
لقد كان بإمكان الحكّام العرب تقوية العمود الفقري لدولهم، أي الطبقة الوسطى وحمايتها بجيش وطني قوي، والتّحالف معها عوض معاداتها ومحاربتها، وتعطيل نموّها الطبيعي، حيث يعتبر علماء الاجتماع الطبقة الوسطى تاريخيا صمّام أمان لكل مجتمع بشري، ودرع يحمي مؤسسات الدولة؛ وأنّ أي تغيّير اقتصادي أو ديموغرافي يطرؤ عليها، يُفقد النّسيج الاجتماعي بأكمله توازنه الطّبيعي أمنيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا. لقد حفرت الدّول الوطنية هوّة سحيقة بينها وبين جسد المجتمع، فدّب التّشكيك العشوائي في شرعية كلّ شيء وكلّ شخص مادي أو معنوي، مهّد للتخلّص من رموز الدّولة (رئيسا كان أو ملكا) بالسّجن أو القتل أو النّفي، لتنصيب خليفة مرتقب للمسلمين؛ وإكراه المجتمع المسلم على إسلام ما أنزل الله به من سلطان، تحضيرا لإقامة دولة خلافة استحوذت فكرتها على عقول متطّرفة، كفرت بالتّغيير السّلمي وآمنت بالتّغيير العنيف.
لقد سعت أنظمة الحكم العربي إلى حتفها بضلفها، بفضل غفلتها السّياسية وجهلها المركّب بالتّاريخ والأنثروبولوجيا، ففقدت ظهيرها الشّعبي وخسرت عمقها الوطني، وسقطت هيبتها التي هي من هيبة الدّولة، وتعرّت هشاشة منظومة حكمها، فتجرأ العامة على حرمتها، وكشف الخاصة زيف أطروحاتها مصدر شرعيّتها.
إنّ انتشار الفقر الجمعي في أي مجتمع، ينزع منه العدالة الاجتماعية بكل معانيها، ويفتح أبواب الفساد والانحراف بكلّ أصنافه، ليستشريا أفقيا (داخل شرائح الطبقة الواحدة)، ليصل قمّة هرم السّلطة؛ وعموديا (بين مختلف الطبقات الثلاثة الرئيسية)، محدثا اضطرابا وظيفيا وبنيويا ورمزيا شاملا، زعزع شبكة المكنات والأدوار. أفرز هذا الاضطراب حزمة من أنومية تسبّب في ركود اقتصادي/مالي من ناحية، وتفكّك اجتماعي/ثقافي من ناحية ثانية، وتعطّيل جزئيا أو كلّيا لعملية الإنتاج من ناحية ثالثة.
لقد آثرت الأنظة العربية سلامة عروشها وأمنها على سلامة وأمن مجتمعاتها، فغضّت الطّرف على انحرافات الأهل والموالين بالتّعدّي على القانون والقيم والأخلاق. خلال فترة وجيزة وبالتّدرج، تمكّنت هذه المنظومة الشّيطانية من إضاعف أجهزة الدّولة (تعثّر مقاومة الإرهاب)، إضافة إلى تفتيت النّسيج الاجتماعي (ظهور المذهبية)، هيّأت مجتمعة الطّريق إلى سقوط الدّولة وأفول نجمها بعد تقسيمها إلى دويلات متجاورة ومتناحرة. لم تنجو إلى حدّ الآن من التّقسيم (المحتوم) وقد اجتمعت فيهما جلّ الشّروط الموضوعية سوى تونس ومصر، بفضل العلاقة الوطيدة بين الشّعبين والجيشين(3).
تشير الإحصائيات الدّولية المتعلّقة بالدّول العربية إلى انتشار الفقر وارتفاع معدلاته بشكل مخيف من سنة إلى أخرى في العالم عموما وفي الدّول النّامية خصوصا والبلدان العربية على وجه أخّص (رغم امتلاك بعضها لثروات هائلة). يقول تقرير الأمم المتحدة حول التّنمية الإنسانية في العالم العربي: "يمثل عدد سكّان العالم الثالث ثلثي سكّان المعمورة، أي 4.3 مليار نسمة من جملة 6 مليارات، يعيش ثلاثة أرباعهم 3 مليار نسمة تحت خطّ الفقر [...] وهناك 65 مليون عربي يعيشون في حالة فقر [...] وأنّ معدلات الفقر العام في العالم العربي، تتراوح بين 28.6 و30 في لبنان وسوريا في حدها الأدنى، ونحو 59.9 في حدها الأعلى في اليمن، ونحو 41 في مصر... أي أن ما يربو عن ثلث العرب يعيشون فقر مدقع"(4).
ليس كلاما يُفترى، فلغة الإحصاء سجّلت ظاهرة عيش فصيل من فقر العرب في المزابل، وقد رصدتها وسائل الإعلام (صورة وصوتا) في مزابل جمع النفيات المنزلية، أين تشتغل وتقتات أسر بكاملها وتطعم صغارها. لم يعرف الإنسان العربي حياة مشينة وبغيضة "vie odieuse" تدنّت فيها إنسانيته (في أحسن الحالات) إلى مرتبة الحيوانات السّائبة. أمر لم يحدث حتى في أحلك ظروف التّخلف والمرض والجهل في عهد الاستعمار الإستيطاني. فرضية حاولت التّثبت منها، فسألت مجموعة من جيل آبائنا وأمهاتنا الأحياء، مستوضحا إن كانوا شاهدوا أو سمعوا في صباهم وفي شبابهم عن (البرباشة)(*). استنكر المستجوبون ما وصفوه (بالإهانة والعار الجماعي) وأكّدوا أنّهم ما كانوا ليسمحوا بحدوثه (لأنّ المسلمين إخوة) وأنّه "ليْسَ بِالْمُؤْمِنِ الَّذِي يَبِيتُ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ"(5). ولأنّهم كانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
في السّنوات الأخيرة قبل سقوط بعض الأنظمة العربية، حُمِّلَ الفرد مسؤولية تأمين شؤون حياته بعد انسلاخه قسرا عن أسرته العريضة وقبيلته من ناحية، وتملّص الدّول والمجتمعات المدنية من مسؤولياتها الوطنية من ناحية أخرى، خُلِقَ مناخ تلاشت فيه اللّحمة الاجتماعية "la cohésion sociale" وضعف فيه التّكافل الاجتماعي التّقليدي والفطري " la solidarité sociale innée"، وانتفت فيه الرّقابة الاجتماعية. هنا اضطّر الفقراء العرب إلى ابتكار وظيفة اجتماعية، ألا وهي نبش المزابل، ما لبثت أن تحوّلت (المزابل) إلى موائد للفقراء، وموارد رزق، ومواطن شغل كفيلة وحدتها باستقبال وتشغيل فقراء، أشاحت الثّورات العربية وحكوماتها المؤقتة بوجهها عليهم.
ودون الخوض في مزيد من الإحصائيات المتعلّقة بنسب البطالة والهجرة غير الشّرعية (الحرقة بالتّونسي) وضعف النّاتج القومي الخام والرّكود الاقتصادي والتّضخم المالي في جلّ البلدان العربية التي قد يتوه الموضوع في تعقيداتها، فأنا مضطر للتّذكير في إشارة عابرة بالوضع الدّيموغرافي العربي لالتصاقه بالمحور الاجتماعي.
إجمالا لم تفلح غالبية الدّول العربية في تطوير أي مجال من مجالاتها الحيوية والتّنموية، بقدر ما نجحت في تطوير ثروتها البشرية، حيث يقارب عدد سكانها 400 مليون نسمة سنة 2010، منها ما يزيد عن 60 من الشّباب، أي 240 مليون شابة وشابة، ينتظرون فرصهم في التّعليم العمل والصّحة، ويبحثون لهم عن موقع قدم في الحضارة الكونية الرّاهنة. يعيش هؤلاء وبقية الشّرائح العمرية على مساحة جملية تقدّر بــــ:13.825.000 كلم2، تزخر بثروات منجمية وبترولية ضخمة، كفيلة بالقضاء على الفقر والخصاصة والبطالة بتوفير أكثر من "51 مليون"(6) موطن شغل سنويا موزعة على جميع الدّول.
في المجال الديموغرافي والصّحي، لا يفوتني أن أنوّه بالجهود الصّحية المبذولة في عالمنا العربي عموما التي يؤكدها ارتفاع مؤشر أمل الحياة عند الولادة، ليبلغ معدّلات محترمة جدّا في بعض البلدان وفي مقدمتها تونس (72 سنة للذكور و74 سنة للإناث). يبقى السؤال مطروحا كيف ستجابه هذه الدّول مستقبلا واعدا بالصحة والتّكاثر وطول العمر لرعايها في مناخ عام يتميّز بركود اقتصادي حادّ وأمني غير مستقر؟
من المحاور المتلازمة بالضّرورة مع المحور الاجتماعي، نذكر المحور الثّقافي الذي أعتبره شخصيا من أساسيات استكمال التّغيّير الحضاري العربي. للأسف الشديد لم تتحرّر الثّقافة العربية إلى اليوم في مجملها من جذورها الصّحراوية، القائمة على تقاليد القبيلة وعادات الخيمة، بعبارة أوضح، لا تزال هذه الثّقافة أسيرة تصورات اجتماعية وأنماط ثقافية عاجزة عن تخطّي حدود البداوة، وإحداث نقلة حضارية حقيقية، بل تكشّف في الآونة الأخيرة إصرارها على الاحتفاظ بكلّ مقوّماتها القاعدية والعودة إلى الخلف والتّمسك بأهداب فكر تجاوزه التّاريخ بقرون ضوئية.
من العوامل المثبّطة لهذه الأمّة، الخلط بين ظاهر الحداثة وجوهر الأصالة المنفتح، المتنّور بنور العلم النّابع من نور الله. لم نفلح نحن العرب في القضاء أو حتى التّخفيف من صلابة أنثروبولجية لم تفرّق بين الثّابت والمتغيّر في المسيرة الإنسانية. كان من اليسير على أجيال الاستقلال التي عاصرت التّحديث، وأسّست شرائح من المثقّفين الذين كان يفترض بهم أن يكونوا من المثقّفين العضويين(7)، القادرين على تطوير الخطاب التّقليدي، باعتبارهم مؤهّلين (نظريا) أكثر من غيرهم لإحداث التّجاوز الفكري والحضاري. لكن ما حدث في مجتمعاتنا عموما كان العكس، نتيجة النّزعة الوصولية التي طغت على غالبيتهم، والتي حقّقت لهم ترقّي اجتماعي فاق طموحاتهم، انتشلهم من الفقر والجهل. تنكّر هؤلاء إلى أصولهم الاجتماعية، وقبلوا بالظّلم والفساد (إن لم يساهم بعضهم في ذلك) الذي ألحقته الشّريحة الحاكمة بالمجتمع في زمن الديمقراطية وحقوق الإنسان.
في الطّرف المقابل تحرّك الفقراء بمعزل عن المثقّفين ليحدث تغيّرات جوهرية لم يشهدها تاريخ العرب والإنسانية، بفضل حسن تفاعل مجموعة من الشّباب مع علوم الاتصال وتكنولوجيا التّواصل الاجتماعي وفنون العصر الرّاهن. ليس من باب الإطراء إن ذّكرت بهذه الظاهرة السّوسيولوجية، وإنما هي حقيقة لمسها العالم المتقدّم بأسره، ولا تزال مراكز بحوثه العلمية تدرس وتحلّل آليات الدّور الذي لعبه (شباب الفايسبوك العربي) في الإطاحة بأنظمة الاستبداد بفضل ما أسميته "الإعلام فوق- أكاديمي"(8).
سأتوقف برهة زمنية عند مفهوم التّفاعل الذي يختلف تماما عن مفهوم الفعل، والفرق بين المفهومين كبير جدّا، ذلك أنّ الفعل ينبع من إرادة فردية أو جماعية، تجيب على أسئلة جماعية تلبية لحاجة المجتمع في ظرف تاريخي معيّن، فتدفع به إلى البحث والتّجربة والإختراع والابتكار، تستبدل نمط عيش تقليدي بنمط عيش جديد، وبسلوكيات مستحدثة تتماشى معه بالكلّية. أما التّفاعل فهو تقليد، يحدث تغييرا بالضّرورة في سلوكيات البعض أولا، ليتحوّل بالعدوى الاجتماعية إلى سلوك جماعي، رغم اعتراض أقلّية مقاومة، ينتهي بها المطاف إلى الانخراط القسري في السّلوك الجمعي. يبقى السّلوك الجديد دخيلا على المجتمع ومصطنعا، غير أصيل من ناحية، ومن ناحية أخرى يعجز عن مواصلة الطريق التي تسلّل إليها نتيجة قرارات سياسية داخلية تحت ضغوط راسمالية، تحرّكها شعارات كونية، متنوّعة أملتها ولا تزال مصالح خارجية.
يلعب العامل الأنثروبولجي دورا حاسما في تعطيل التّنمية العربية التي اكتفت بالنّقل دون العقل، والاستيراد دون الإنتاج، والجلوس على الرّبوة دون المساهمة الفاعلة في صدام الحضارات(9) الذي تقوده وترعاه قوى سياسية ومالية دولية، شديدة الفاعلية والتأثير، بآليات مبتكرة لعل آخرها العولمة التي تسعى إلى توحيد السّلوكيات المختلفة وأنماط العيش المتمايزة عن بعضها البعض، في نمط (وحيد) متكامل الأركان عبر ثقافة أحادية لا تملك الدول العربية ناصيتها.
في هذه الفجوة الزّمنية والحضارية، انقسمت المجتمعات العربية ذاتيا إلى ثلاثة فرق: فريق متفاعل مع العولمة دون احتراز، وهم دعاتها من أنصار الحداثة ويمثلون شريحة اجتماعية عريضة. ثمّ فريق متفاعل ومتحفّظ في نفس الوقت، يدّعي الانتقائية وهم قلّة قليلة أقرب ما تكون فكريا إلى التّلفيقية منها إلى العقلانية. وأخيرا أغلبية مستهلكة للحداثة استهلاكا بهيميا، كما تستهلك أيّة مادة تعترضها، وبالتّالي تتقاسم الفرق الثلاثة البراعة في التّعامل بمعنى التّفاعل مع حضارة العصر، والاستسلام للأمر الواقع والرضا بالتّبعية.
لقد وجد دعاة الحداثة من السّياسيين والمثقّفين العرب في التّبعية مخرجا للتّخلف، وانقسم الانتقائيون إلى متحفظين معتدلين، عقلانيين، ولاذت غالبيتهم بماضي سحيق، تبحث عن مجد تليد بين عثرات السّياسة، وضبابية الثّقافة، وعدم التّوازن الطّبقي، عساها تنجو من أزمتها الحضارية. أمّا الأغلبية التي نصفها في تونس (بالعيّاشة) فقد غرقت في لا مبلاة حادّة، ما لم يتعدّ على غفوتها أي من الطّرفين بحرمانها من التّمتع بتكنولوجيا مستوردة.
2/ المحور السياسي
نتوقف عند هذا المستوى في شرح المحور الاجتماعي وتوابعه، لنخوض في علّة العرب الحقيقية، وأقصد المحور السياسي وما يتصل به من أفرع، زادت وضعنا العام تعقيدا وخطورة.
وصل كلّ الحكّام العرب إلى السّلطة في التّاريخ المعاصر عن طريق غير شرعية، فمنهم من ورث الحكم، ومنهم من انقلب على سابقه (عسكريا أو صحّيا)، ومنهم من زوّر الانتخابات، وبالتّالي كان أغلبهم من هواة السّلطة، أحاطوا أنفسهم بمجموعات من المتملّقين، يطلق عليهم خبراء و/أو مستشارين، احترف جلّهم »الأمر بالمنكر والنّهي عن المعروف«. لعبت هذه التّشكيلة الحاكمة دورا محوريا في تنظيم المجتمعات وتوجيهها الوجهة التي أقرّتها في غياب تام للممجتمعات والنّخب، حيث لا يكاد يعثر الباحث على دولتين عربيتين، أجمعتا على فكر سياسي واحد، ولا منهج إجرائي موحّد. حدث هذا ولا يزال منذ أن أسلمت الجماهير العربية رقابها لهواة السّياسة، وألقت بمسؤولية تقرير مصيرها على عاتق أناس حالمين بالتّقدّم واللاّحاق بالأمم المتقدّمة بالقفز على التّاريخ.
لقد استغّل السّاسة العرب (إلا من قلّ) ثقة شعوبهم، وتحديدا ثقة الطبقات الوسطى التي ساعدتهم في اعتلاء سدّة الحكم من غير وجه حقّ، فتلاعبوا بمشاعر الجميع ودغدغوا عواطف البسطاء، بمشاريع تنويمية تحت مظلّة أسطورة المواطنة(10) لا تغني ولا تسمن من جوع. إنّ أبرز ما كشفت عنه الثّورات العربية، فشل التّنمية في جميع المجالات، حيث لا تزال الأمية تنهش في مجتمعاتنا. فالتّعليم الذي كان مفخرة الدّول الوطنية لم يغطي في مجله 52 من مجموع (أمّة اقرأ) في مقابل 48 لا تزال تغطّ في جهل عميق(11).
أما الصّحة بشقّيها العضوي والنّفسي، فإنّ تداعياتهما توصف بالكارثية على الطّبقات الوسطى والفقيرة. في هذا الصدّد يقول الدكتور "زهير السّباعي" رئيس المنظمة العربية للصحة والبيئة المدرسية: "إنّ %70 من الحالات التي تزور الأطباء في العالم العربي هي نتيجة القلق النّفسي الذي يتوارى خلف مظاهر مرضية..."(12). هذا وقد عرّف الدكتور السّباعي الصحة بقوله: "الصحة لا تعني مجرد خلو الجسم من المرض، وإنّما هو التّكامل الجسدي والعقلي والنّفسي، والعقائدي كائناً ما كانت العقيدة. فأكبر مدعاة لطمأنينة النّفس هو الإيمان. فطغيان المادة، لا سيما بعد الطّفرات الاقتصادية، أثّر على التّوازن والتّكامل لدى العديد من النّاس. ومن المعروف علمياً أنّ من بين كافة أسباب الأمراض ودواعي الصحة الأهم هو سلوك الشّخص. فلو استطعنا أن نربّي السّلوك الشّخصي السّليم لدى الإنسان، لنجحنا في تجنيبه الكثير من الاأراض التي تتأتى من أسلوب التّربية في الطفولة..."(13).
نلاحظ أنّ الدكتور السّباعي قد وُفِّقَ في ادخال عنصر العقيدة، وهو محقّ في ذلك لما للعقيدة من أهمية في خلق التّوازن النّفسي والمحافظة عليه في شخصية أفراد وجماعات متمسّكين بدينهم، هذه الجماعات التي تاهت في فوضى الفتاوى المتهاطلة عليها شرقا وغربا من أناس أغلبهم ليسوا من الدّين في شيء، وليس لهم من التّدين إلا لحية وجلباب وحجاب ونقاب. حدث هذا بمباركة من السّلطات التي لا تتدّخل إلا إذا اقتراب الخطر من حماها، وهي التي دعّمت وشجّعت على إحداث لخبطة عقدية في مسائل بديهية. فوّضت هذه الجماعات أمر دينها إلى من تصفّحوا بعض الكتب الصّفراء، وضعها علماء دين (قدامى ومحدثين) تميّزوا بالتّشدّد والتّعصب منذ القرن الرّابع هجري إلى اليوم. بهذا بقيت الأمّة تراوح مكانها، وتعيد إنتاج حلول الأمس للتّغلب على مشاكل اليوم بعقيدة ثابتة في زمن التّغيّرات بأساليب متغايرة.
أقصت الشعوب العربية الإسلامية نفسها ذاتيا من مجال اللعبة السّياسية والتّنموية في الحياة الدنيا، وتخلت تلقائيا عن فهم وتطوير دينها. فكان التّفريط مزدوج الأبعاد، بالقاء المسؤولية السّياسية والدّينية على عاتق رجال بنوا مجدهم على سذاجة عامة تقدّس الحاكم، نُشِئَة على السّمع والطاعة. أسلمت رقابها من ناحية لرجل السّياسية، وأسلمت قلوبها من ناحية أخرى لرجل الدّين، ولم يبق لها سوى [...] حتى هذه، حاربها الأول بوسائل منع حمل أفتى بتحليلها الثّاني. كذا ضاقت الدائرة على الأمة العربية سياسيا وعقديا حتى أصيبت بما يعرف طبيا "بنقص التأكسج Hypoxie". فكيف يمكن لعقل جمعي في شبه غيبوة " pré-coma" أن يفكر، ولجسد شبه مخدّر " pré- ankylosé" أن يكون فاعلا؟
وقف الحكّام ومعهم بعض علماء الدّين العرب من الشّعوب المضلّلة موقف الشّيطان من القوم الذين أغواهم، لمّا ألقوا عليه باللّوم فردّ عليهم: " مَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم"(14). ذلك أحد المدخل المباشرة لتسلّط الحكّام على العابد والاستحواذ على خيرات البلاد، ليبقى أمل المحرومين والكادحين في نيل نصيبهم من الدنيا، معلّقا بالآخرة حيث النّعيم المقيم والمتعة غير المنقطعة.
تآمر السّاسة العرب على شعوبهم بمباركة علماء دين البلاط على المستضعفين والمعذّبين، تماما كما حدث في القرون الوسطى، إذ ضيّقت الكنيسة الخناق على الرعايا، بتجريم العلم والعلماء، وتحريم استعمال العقل؛ كذلك فعل بعض فقهاء الأمة الإسلامية ممن خلطوا بين إيمان استقر في قلب يطمئن إليه، وبين عقل لا يطمئن للمسلّمات ولا يرتاح للبديهيات. بهذه البساطة التف هؤلاء وأولائك على العقل الجمعي العربي (ولا أقول المسلم)، ليظّل الإنسان العربي/المسلم عاطفيا، انفعاليا، مندفعا وطوباويا، لا سلطان للعقل على أفعاله ولا منطق يضبط ردود أفعاله.
في المحور السّياسي أيضا، يمكن للباحث الوقوف على عجز جلّ الدّول العربية في معالجة فوضى الفضاء المحيط بالعواصم والمدن الكبرى، وانتشار العشوائيات والأحزمة الحمراء منذ ستينات القرن الماضي. تلك المناطق السكنية التي تؤّم الرّيفيين الوافدين على العواصم بحثا عن موطن شغل "poste d’emploi" أو مورد رزق "source de subsistance" يحميهم من شظف العيش في أرياف طاردة، ويؤمن لهم حياة طيّبة في مدن غير مؤهلة لاستقبالهم، فتحوّلوا إلى قنابل موقوتة، معدّدة للانفجار مع أول هزّة اجتماعية وسياسية.
تحوّلت هذه الأحياء/القرى إلى أوساط شبه حضرية، وبيئة مؤاتية لكلّ أنواع الانحراف الاخلاقي، وإلى محاضن لجميع أصناف التّطرف الدّيني. لقد نتج عن تهاون الدّول بالعشوائيات ما يعرف بظاهرة تريّيف المدينة، الشيء الذي أفقد هذه الأخيرة صبغتها الحضرية التّقليدي من ناحية، وقدرتها على بناء مجتمع متوازن طبقيا وثقافيا واقتصاديا قادر على النّهوض الذّاتي من ناحية أخرى.
تسبّبت تلك الظاهرة في إضعاف الدّول العربية (الضعيفة أصلا) إلى أن فَرُطَ الأمر من بين قبضتها الحديدية، نتيجة الصّراعات المتتالية بينها وبين سكّان العشوائيات التي تزايدت أعدادها وتعداد ساكنيها الذين حصلوا على قدر من الرّعاية الصحية والتّعليم والشغل وبعض من مرافق الحياة الكريمة من ماء وكهرباء ومجاري صرف صحّي وطرق معبّدة ومدارس ومستوصفات... الخ، بفرض سياسة الأمر الواقع على السّلطة المركزية والجهوية.
مكنّت لعبة عضّ الأصابع هذه، بعض شباب تلك المناطق من الخروج على القانون بيسر وسهولة. قد يرى البعض في هذا التّحليل شيئا من المبالغة، خاصة وأنّ الجميع يعلم بطش السّلطة طيلة حكمها، وخاصة في العشريتين الأخيرتين من القرن الماضي، لكن ما قد يغيب عن بعض المحلّلين، أنّ الدّول الوطنية اعتبرت الخدمات الاجتماعية الصحية منّة تمنّها على رعاياها، تحت شعار تساوي الحظوظ "égalité des chances" بين المواطنين. فنجحت تلك الدّول في تمرير ذلك إلى حدّ كبير لتهدئة التّوترات والصّراعات الدّورية " sporadiques" بين الطّرفين.
في الجانب الاقتصادي وهو من المحاور المرتبطة بالمحور السّياسي، أظهرت تلك السّياسات الاجتماعية محدوديتها، بعد أن اكتشفت الرعايا حرمانها من ثرواتها المتنوّعة باسم المواطنة التي أسطرتها الدول الوطنية، وتبيّن لها أنّ تلك المواطنة لا تتعدى رشوة سياسية تقدمها الدّولة في مقابل حصولها على شرعية واهية ومزّورة، زادت الأوضاع الاقتصادية تدّنيا، والاجتماعية تخلّفا، وثقافية ترهّلا، والقيمية تحلّلا. في لحظة زمنية منسابة، تمرّدت هذه الكتل البشرية على السّلطة القائمة وقوانينها الجائرة، فتصرّفت بدافع غريزة حبّ البقاء، لتخلق اقتصادا موازيا لا يخضع لقواعد ولا لضوابط الاقتصاد الرّسمي. فكان الضّرر أكثر من النّفع على المجتمع والدّولة التي فشلت في السّيطرة على الظاهرة ودمجها في دورة الإنتاج القومي.
ما لم تنتبه إليه الحكومات العربية المتعاقبة على السّلطة الضّعف العددي لحليفتها الطبقة الغنيّة، وهي طبقة هجينة، غير قادرة على امتصاص فوائض العمالة الوافدة على سوق الشغل العربية من سنّة إلى أخرى. وإنّي أعتبر هشاشة وانتهازية الطبقات الاجتماعية الغنيّة الملتصقة بالسّلطة سياسيا وماليا في العالم العربي، من أهم أسباب سقوط الأنظمة الحاكمة، لانتهازيتها وعدم قدرتها على القيام بدورها التّاريخي في النّهوض بالمجتمع على غرار نظيرتها الأوروبية التي لعبت دورا رئيسيا منذ القرن الثّامن عشر إلى الآن في تنمية المجتمع والدّولة معا.
لقد اجمع أغنياء العالم العربي على تهميش القطاع الأول " Le secteur primaire" أي الفلاحة، والاستثمار في القطاع الثاني "secondaire Le secteur" أي الصناعات الخفيفة والتّحويلية في الوقت الذي ألقت بكلّ ثقلها المالي في خلق قطاع ثالث " Le secteur tertiaire" عاجز على توفير قيمة إضافية، تضخ في تطوير القطاعين الأول والثاني الذين لم يبتعدا كثيرا عمّا كانا فيه قبل خمسين عام. لقد أثبت قطاع الخدمات وفي مقدمته السّياحة محدوديته في استيعاب اليد العاملة المتنامية في كلّ البلدان العربية، مشكلا أحدى أهمّ اخفاقات التّنمية في مجتمعاتنا، وقد أدّت بشكل مباشر إلى الإطاحة بأنظمة تحالفت مع قوى خارجية لتسيطر على أزماتها السّياسية والاجتماعية والاقتصادية.
في ظروف تاريخية مشابهة مرّت بها المجتمعات الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تبنّت البورجوازيات الوطنية مشروع تنمية متوازية المسارات. أسّست له فلسفة تنويرية أقيمت على العقل، أسّس لعقد اجتماعي حدّد مسؤوليات الدّولة والمجتمع، وضمن مساواة الجميع في الحقوق والواجبات في ظلّ دولة المؤسسات والقانون. في هذا الإطار العام تطّورت القطاعت الثلاثة، بفضل رأسمال وطني، قنع بربح معقول مقابل استثمار غير مشروط.
لعبت العقلانية دورا أساسيا في إرساء قواعد الديمقراطية والحرية الفردية التي ساهمت في الرّقي الجماعي، في كنف تعايش سلمي، بضمان حرية مسؤولة، حرّرت الفرد من كلّ القيود الاجتماعية والإيديولوجية المكبّلة لإنسانيته، باعتباره وحدة بيولوجية واجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية متكاملة، شكّلت المعيار الأوحد في مجتمع ينشط تحت راية دولة سخّرت نفسها لخدمته دون تميّيز عرقي ولا مذهبي.
عند إلتقاء العقلانية بالفردانية المهذّبة التي يطلق عليها علماء الاجتماع تسمية "الفردانية المنهجية" حقّق الغرب قفزة حضارية وعلمية، مكّنته من بسط سيادته على العالم بأسره. ما كان ليتّم ذلك إلا باحترام العقل البشري وتوظيف هذه النّعمة التي أنعم الله بها على النّاس كافة، فحكّموه في إدارة شؤون دنياهم بما يعود بالنّفع على الفقير قبل الغني، فنجحوا في خلق توازنات طبقية، بنت مجتمعات مدنية تحترم الدّولة وتحمي المواطن، الذي يكون مواطنا، إلا من خلال مكانته ودور الاجتماعيين.
على النّقيض من ذلك، جحدت فئة من العرب المتحذلقين في الدّين عبر العصور، ممّن أطلقت عليهم صفة "الإسلامفيون"(15) بالعقل كنعمة إلهية، فكفرت به وبقدراته كفر نعمة، لم يلبث أن تحوّل إلى كفر ملّة هدّدت به المجتمع والدّولة سواء بسواء. لقد تجرّأت هذه الفئة القديمة/المتجدّدة على إرادة الخالق، فاتخذت آلهها هواها، وأشركت بالله برفض مشيئته سبحان أن جعل من مخلوقاته كافرا ومؤمنا "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"(16). ثمّ نصّبت للدّفاع عنه سبحانه وتعالى وهو في الغني عن عباده وعن دينه الذي اختاره لعباده، وقد تكّفل عزّ وجلّ بحفظه من زيغ الأهواء وتآمر الأعداء.
تزعم هذه الفئة امتلاك مفاتيح الجّنة وأنّها ستقود النّاس إليها بالسّلاسل إن لزم الأمر، فاستسلم لهم ضعاف النّفوس، وكلّ من آمن بإسلامهم الوضعي النّابع من كبريائهم وتعاليهم على العامة والخاصة ممن لم يتفقّهوا في الدّين. فأقفل الله قلوبهم فأصم سمعهم أعمى بصيرتهم، فتمسّكوا بفكر تكفيري عقيم، وتكتيك زرع الفتنة بين الآمنين من أميين وعالمين.
تخوض الأمة العربية الإسلامية اليوم معارك لا متناهية مع أعدائها في الخارج والدّاخل، أمّا أعداء الخارج فقد جاهروا بعدائهم الذي لا تكاد تخبو جذوته حتى تعود من جديد. أمّا أعداء الدّاخل فقد طالت تقيّتهم حتى تناستهم الذّاكرة الجمعية، وها هم يعودون إلى السّطح نتيجة سقوط الأنظمة المستبدة، وضعف الدّول المركزية التي لم تفلح في صدّ هجمتهم العنيفة لا بالقول ولا بالسّاعد. ذلك مكمن الخطورة على الأجيال القادمة التي فرضت عليها معركة لا هي عقلانية ولا هي عاطفية، تمحورة حول مسألة لا تخصّ إلا العبد وربّه، من شاء فليؤمن عن قناعة، بعد أن يستقر الإيمان في قلبه وبين جنباته، ومن شاء فليكفر، ليتمّ وعد الله " وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ"(17).
تعاني الأمّة العربية الإسلامية من انحباس الفكر منذ أن فشل "الإمام الغزالي" في البرهنة العقلية على وجود الخالق، ذلك لأنّه أخطأ رحمه الله، منهجيا في استعمال العقل للاستدلال على ما لا تدركه العقول ولا الحواس التي هي نوافذها على محيطها المادي، ولمّا أعجزه استعمال المنطق في غير موضعه، قال قولته الشّهيرة "نور ألقاه الله في صدري"(18). لقد أفلح "الإمام" في إيجاد تخريجة يرضاها القلب ويقبل بها العقل ويؤيدها المنطق، أن جعل صدره (أي قلبه) موطنا للإيمان ونور الله.
بالاعتمد مرّة أخرى على المنهج المقارن، ولو تأملنا في شبيهتها مقولة الفيلسوف الفرنسي "ريني ديكارت" الذي حاول هو الآخر إثبات وجود الله بفكره، لكن من خلال الوجود المادي للكون؛ ولمّا أعيته الحيلة قال "أنا أفكر، إذن فأنا موجود"، فاستدل على وجود الخالق (لا ذات الخالق كما فعل "الغزالي") من خلال وجوده هو كإنسان يفكر بعقله، بعيدا عن العقيدة والقلب. فرفع بذلك من شأن العقل البشري، ودعّم به ما استقر في القلب من إيمان دون الوقوع في خلط منهجي، فتجنّب في حكمة بالغة الجمع بين الإدراك الوجداني وأداته القلب، والإدراك الحسّي وأداته العقل، هذه المنحة الإلهية التي إذا اجتمعت مع الذّكاء حقّقت كرامة الإنسان وميّزته عن سائر المخلوقات.
لقد وضع الرجلان منهجين مختلفين لكنّهما متكاملين، إذ توقّف الفكر البحثي لدى "الغزالي" عند حدود الوجدان والقلب، ليقيم معرفة مكتفية بذاتها، أساسها القناعة والتّسليم، لا تستوجب بحثا عقليا يخلق استمرارية بحثية، فتبني معرفية تراكمية حسيّة. هذا قد يفسّر إهتمام "الغزالي" بتطوير وإحياء علوم الدّين، وإهماله ما يصفه البعض بعلوم الدنيا في ازدراء وتحقير. في الوقت الذي فتحت المعرفة العقلية عند "ديكارت" طريق استغلال كلّ الحواس في التّمحيص والتجربة، لإعلاء علوم الدنيا كالطبيعة والفيزياء والرياضيات وغيرها (مع احترام علوم الدّين)، لتتحوّل ثوابتها إلى قوانين علمية، لا يدركها إلا الرّاسخون في العلم الذين " يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ"(19).
لم يفضّل الله علما عن علم، ولم يحدّد هوية أولي الألباب، أولائك الذين أدركوا ويدركون وجود الله من خلال الوجود بالفعل، ليؤكدوا على ما هو موجود بالقّوة، ليتّم التّجاوز المعرفي والتّراكم العلمي، ويستحق الإنسان خلافة الله في الأرض من ناحية، ويكون على مستوى الأمانة التي حملها ولم يشفق من حملها "إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا"(20).
إنّه الخلط المبكّر بين العقيدة والعقل وبين الدّين والسّياسة التي استأجرت رجالا كيّفوا الإيمان على هواهم، فوضعوا دينا جديدا، أعرجا، يقرّ بالعاطفة والانطباع، ويرفض منهجية العلم والمعرفة والمنطق؛ فأنكروا سلطان العقل في التّدبر والتّأويل والاستقراء والاستنباط والاستدلال والاكتشاف والإختراع، وهو المقصود في الآية الكريمة التي وصفت العقل بالسّلطان " يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ"(21). ثمّ كفّروا كلّ من آمن بالعقل وكأنّه من صنع الشّيطان، متخذين من التّكفير الأصغر نافذة على التّكفير الأكبر والأشملّ، موهمين العامة أنّه الحقّ من ربهم وهم كاذبون "وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُون"(22).
تجد الإسلامفية طريقها إلى قلوب العامة كلّما اشتدّ الانحطاط الفكري والتّخلف العقلي للأمة. لقد طال عمر هذا الجمود الفكري، وامتد به الزّمن، وراح يظهر بين الفينة والأخرى، يجتر ذات الطّروحات، بنفس أسلوب التّرغيب والتّرهيب. فكلّما أصاب الوهن السّلطة الحاكمة، وغرق المجتمع في الجهل إلا وبرز هذا التّيار بمختلف طيفه الفكري المحافظ على ثبواته الإيديولجية، والرّافض لتطوير نفسه بما يتماشى وضرورات العصر.
لقد آن الأوان للتّخلص من هذا المنهج العقيم، ورؤيته القصيرة، وحيّله المكشوفة والكاشفة لنواياه في الوصول إلى السّلطة، متخّذا من جهل العامة وطاعتها العمياء مطيّة للجاه والثّراء، التي زرعت الفتنة والخلاف بين أفراد الشعب الواحد، ومزّقت الأمة إلى فرق متناحرة ومتقاتلة قديما وحديثا. لقد لخّص الإمام "الشهرستاني" في دقّة وموضوعية الهدف الأسما لهذه الجماعات منذ القرن الخامس هجري في قوله: "وأعظم خلاف بين الملّة خلاف الإمامة... لذا ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة"(23).
على امتداد خارطة العالم العربي لم أجد دولة عربية واحدة سلمت من تداعيات عودة النّزعة التّكفيرية التي طالت حتى أشّد البلدان تمسّكا بالدّين، حكومة وشعبا وملكا. تداعيات زعزعت بدرجات متفاوتة، أمن واستقرار مجتمعاتنا برفضها الانخراط في مسيرة تنموية على علّتها، لتنهش جسد الأمة بخلافات مذهبية هامشية، وصراعات دموية على الكرسي. يوشك المتطّرفون أن يتدمروا مجتمعات بأسرها ويحطموا بنيتها التّحتية لدول كانت بالأمس القريب قائمة بذاتها، وجعلوها خاوية على عروشها، وأفسدوا الحرث والنّسل، فأنجزوا في جنون وتعصّب ما عجز عن انجازه أعداؤها الأزليين وهم يدّعون الإصلاح في الأرض" وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ "(24).
الخاتمـــــة
كان كلّ ما تقدّم تشخيصا لبعض أسباب تراجع العرب المسلمين علميا وثقافيا وحضاريا، وانهزامهم سياسيا. قد نتفق على هذا التّشخيص وقد نختلف، لكن المعضلة لا تكمن هنا، بل المعضلة في: أولا إيجاد طريقة أو مجموعة طرائق لتقويم هذه الانحرافات في فهم الدّين الحنيف، والانتقال به من عبث تثبيت الثّابت إلى واقعية المتغيرات تأثيرا فيها وتأثرا بها. ثانيا البحث الجماعي عن مخرج لانحباس الفكر السّياسي وتحريره من تراث متحجر. ثالثا ابتكار آلية لإعادة الثّقة بين الحاكم والمحكوم والتّقريب بين آراء رؤى كليهما حول أهداف مشتركة، تؤّمن الاستمرارية لكليهما وتحميهما والأمّة من الإندثار.
لا أدّعي امتلاك إجابات أو حلول، ولكن أحسب من نافلة القول أنّ رفع شعارات متباينة مثل الإسلام هو الحلّ الذي يرفعه الإسلامفيون، أو الديمقراطية هي المخرج الذي يدعع إليه اللّيبراليون، أو فصل الدّين عن الدّولة الذي ينادي به العلمانيون، أو الجلوس للتّحاور بين الخصوم الذي يسانده الإعلاميون، أو إحياء الاجتهاد الذي يسعى إليه علماء دين وسطيون؛ تشكّل جميعها عناصر إجرائية، اعتبرها لازمة وغير كافية للحدّ من تعصب متعدّد الأوجه. إنّها مقترحات مستهلكة، شبه متكلّسة، ستتحوّل إن آجلا أو عاجلا إلى دغمائية وتطّرف جديدين.
أمّا الحوار فهو لا يجدي نفعا برأيي المتواضع في ظلّ هجمة "من يدّعون في العلم فلسفة". يشّكل الحوار في شكله المتداول مغذّيا للأزمة الرّاهنة، وليس مدخلا إلى حلّ جذري لثقافة تعالت فيها الأنا على الآخر إلى حدّ التّضخم المرضي. وسأفرد لهذه الآلية مقالا، أوضّح فيه أسباب عقمه من ناحية، والشّروط الضّرورية لإنجاحه بين المتحاورين التي بدونها يتحوّل الحوار إلى معوّق موضوعي يؤخر ولا يقدِم.
العالم العربي اليوم في أمسّ الحاجة إلى حلول مبتكرة، قادرة على دفعه إلى الأمام للتّخلص من سلبيات الماضي, وتخليص التّراث الإسلامي من »قدسية وظيفية« سالت من أجلها الدماء، وأزهقت في سبيلها الأرواح.
لا يمثّل هذا المقال دعوة إلى حداثة فجّة، ولا هو دعوة للانبتات أو الانسلاخ المقيت عن الأصول، ولاهو دعوة إلى تلفيقة فشلت تاريخيا. إنّما هو دعوة لإعادة النّظر في استعمال العقل والقلب وألاّ يتعدّى أحدهما على الحقل المعرفي للآخر "Le champ épistémologique "، لتجاوز أزمة تخطّى عمرها اثنى عشر قرنا هجريا. هي دعوة متواضعة لمراجعة منهج تواكل العقل العربي على العقل الغربي الذي آسر فكرنا، وقوّض بوسائل متغايرة "mutantes" قيمنا ومرجعياتنا، وخطّط لإعادة تقسيم أرضنا وتفتيت دولنا من جديد. لست مازوشيا، وأكره جلد الذّات فردية كانت أو جماعية، ولا أتباكى على اللّبن المسكوب.
هذه محاول قد تسهم في استكمال ثورة اجتماعية بثورة ثقافية، تميّز بين الوجدان وبين المنطق، تؤسس لحلول عقلانية لأوضاع شديدة التّعقيد داخليا وخارجا، بعيدا عن المنعكسات الشّرطية.
----------------
(*) بورجوازية الدولة: مصطلح يطلق على البورجوازية الصغيرة بعد استحواذها على ثروات المجتمع واستيلائها على مفاصل الدولة.
1) نسبة إلى "توماس روبرت مالتوس 1766/1834" عالم سكاني واقتصادي أنجليزي، اشتهر بنظرية إبادة الفقراء بمنعهم من التّناسل والتّكاثر للقضاء التّعاسة البشرية وتحقيق السّعادة على الأرض.
2) انظر المقدمة ، الباب الثالث، الفصول 1،2،10،11،12 و13.
3) صالح المازقي: الثّورة والدّولة، الفصل الأول (الجيش... الثّورة... والدّولة) ص: 38
4) تقرير التنمية الإنسانية العربية برعاية الأمم المتحدة 2009.
*) البرباشة، مصطلح أطلقته التّوانسة بلهجتهم العامية على نابشي المزابل.
5) حديث رواه المقدسي في المختارة عن ابن عباس رضي الله عنه.
6) تقرير المنظمة العربية للشغل 2010.
7) مفهوم للمفكر الإيطالي "غرامشي" ميّز به المثقّف التّقدمي عن المثقّف التّقليدي.
8) صالح المازقي، ثورة الكرامة، المحور الأول (الإعلام فوق-أكديمي) ص:38
9) انظر الكتاب الشّهير لصامويل هنتنتجتونغ، صدام أو صراع الحضارات وأصل العبارة باللغة الإنجليزية " The Clash of Civilizations" وترجمتها باللغة الفرنسية " Le Choc des civilisations"، عن جامعة هارفارد 1996.
10) صالح المازقي، مداخلة بعنوان: الموطنية في أقطار الغرب العربي... أسطورة لا بد منها، جامعة ورقة –الجزائر أغريل 2013- المداخلة منشورة على موقع بواتي بتاريخ 28/10/2013، وفي كتاب: نظرية التّوازي الاجتماعي التّاريخي بين تونس ومصر، عن الدّار المتوسطية للنّشر 2014.
11) عن إحصائيات الألكسو، المنظمة العربية للتّربية والثقافة والعلوم لسنة 2009.
12) عن جريدة الشّرق الأوسط عدد 9473، نوفمبر 2004.
13) نفس المصدر السّابق
14) ابراهيم الآية 22.
15) المفهوم إدغام لمصطلحي الإسلاميون والسّلفيون، وهي صفة تجمع كلّ تيارات الإسلام السّياسي والإيديولوجي، باعتبارهم جسدا واحدا بني على مبدأ التّكامل في الاختلاف.
16) التّغابن الآية 2.
17) الكهف الآية 29
18) حجّة الإسلام الإمام أبو حاحمد الغزالي: كتاب المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزّة والجلال. النّسخة الإلكترونية عن موقع الفلسفة الإسلامية، تحقيق محمد إسماعيل حزيّن وشذا رائق عبد الله.
19) آل عمران الآية 7
20) الأحزاب الآية 72
21) الرّحمان الآية 33.
22) آل عمران الآية 78
23) الإمام أبو الفتح الشهرستاني، كتاب الملل والنّحل. النسخة إلكترونية PDF.
24) البقرة الآيتين 11و12
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: