المواطنة في أقطار المغرب العربي... أسطـــورة لا بد منها
د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7204
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
مقدمــــــــة
لم يعرف العرب منذ العصر الجاهلي وإلى وقت متأخر مفهوم المواطنة ولم يقفوا على معناها وقد جاء في حديث مرفوع(*) قوله صلى الله عليه وسلم: "من جهل شيئا عاداه"، وبالتالي فإنّنا أمام مفهوم دخيل على الثقافة العربية الإسلامية، تسلّل مع الفكر الاستعماري الغربي (نهاية القرن 18) إلى عقول من تأثروا بالنّهضة الأوروبية من قيادات (الدولة الوطنية)، ليتمّ توظيفه في محلّ ورقة سياسية يستمدون منها شرعية حكم مستبد. لا تزال الإرادة السياسية تتفنّن في تحريف مفهوم المواطنة بشكل بائن، وتعمل على غرسه مختلا في صلب تصورات اجتماعية عربية تعاني في معظمها من الجهل والخصاصة. لقد بالغ الساسة العرب في استعمال المفهوم إلى أن حوّلوه إلى أسطورة(1)، سمجة تكذّبها وتناقضها ممارساتهم في واقعنا المعيش.
I - المواطنة في منهج الأنثروبولوجيا المقارنة
1/ المواطنة في الثقافة العربية الإسلامية
دون تطويل ممل ولا إيجاز مخل، يمكننا التأكيد بالرّجوع إلى الأنثروبولوجيا من أنّ العرب لم يعرفوا مفاهيم المُواطن والوطنية والمواطنة ولم تجري على لسانهم هذه المصطلحات ولم يحدّدوا لها دلالات سيميولوجية. أما الوَطَنُ فيعرّفه ابن منظور وغيره "بالمنزل الذي يقيم فيه الإنسان ومحلّه، يجمع على أوطان وهي مرابض الغنم والأبقار التي تأوي إليها"(2). ليس كلاما مرسلا ولا تجني على الثقافة العربية قبل ظهور الإسلام ولا بعده. ودليلنا على ما تقدم هو خلو أمهات القواميس اللغة العربية القديمة مثل: لسان العرب لابن منظور ومقاييس اللغة لابن فارس وتاج اللغة وصحاح العربية لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري من المصطلحات سابقة الذّكر.
وقد يجوز القول بأنّ جميع من ذكرنا من علماء اللغة العرب لم يكن بإمكانهم الوقوف على مصطلح "الوطن" واشتقاقاته اللغوية ليضبطوا معانيها ومجالات استعمالها، لأنّ مصطلح "الوطن" لم يذكر ولو مرّة وحدة في القرآن الكريم الذي "نزل بلسان عربي مبين"(3).
استعمل العرب مفهوم البلد في معنى (الوطن) كما جاء ذلك في القرآن الكريم الذي ذكر هذه الكلمة "البلد" بنفس المعنى في ثلاثة سور وأربع آيات وهي كالتالي: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ" (ابراهيم 35)، " لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ" (البلد 1)، "وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ" (البلد 2) وفي الأخير الآية 3 من سورة التين في قوله تعالى: "وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ". وفي المرّة اليتيمة التي ذكر فيه القرآن الكريم (ما يشبه شكلا) كلمة المَوَاطِنُ، كانت في الآية 25 من سورة التوبة: "لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَة" بفتح الميم للدلالة، قال "الإمام الطبري": (مَوَاطِنَ أي أَمَاكِن).
وكانت العرب في الجاهلية تتنادى بعبارات مثل: يا قوم أو أيها الناس، ثم جاء الإسلام ليناديهم بصفة الإيمان أو الكفر، فكان القرآن الكريم يخاطب المؤمنين والمؤمنات في كل مرّة بقوله: " يا أيها الذين امنوا استعينوا بالصبر والصلاة..." (البقرة 153)، وقوله تعالى: "وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها..." (التوبة الآية 72) الخ... لعل العرب القدامى تجنبوا مثل تلك المصطلحات لارتباطها بعالم الحيوان كما أسلفنا.
ومن الغريب أنّ المسلمين وخاصة الذين اشتغلوا بفلسفة الإغريق نقلا ونقدا من معتزلة ومتكلمين وغيرهم من أهل العلم والمعرفة لم ينتبهوا لمصطلح "مواطن" « citoyen » (بضّم الميم) وهو الشخص الذي يقطن المدينة « la cité » وينتمي إليها فهو "مُوَاطِنٌ"، يتميز عن "العبيد esclave" و/أو "الأقنان serfs" بحق الانتخاب داخل الجمعية العمومية والمساهمة في اتخاذ قرارات الحرب والسلم والمشاركة في وضع القوانين وتسيير إدارة المدينة.
غير أنّ رسول الله عليه الصلاة والسلام، بفطرته النقيّة وحسّه الإنساني، جعل مسلمي المدينة المنّورة من حيث لا يشعرون، مواطنين يمارسون المواطنة. تمّ ذلك حين سوّى بل آخى بين المهاجرين والأنصار من ناحية وجعل لغير المسلمين من يهود ونصارى ما للمسلمين وعليهم ما على أتباعه من ناحية ثانية. فكان التّعايش السلمي، الديمقراطي في مجتمع المدينة إلى أن خان اليهود عهودهم وخرقوا بنود وثيقة المدينة التي ترجمت النّص القرآني، الديني إلى نص مدني. لقد أُنجزت الديمقراطية العملية في حياة الرسول الكريم الذي لم يفرّق بين العربي والأعجمي ولا السيد والعبد ولا بين الأبيض والأسود إلا بالتّقوى وهي في جوهرها منظومة الحقوق والواجبات في السلم والحرب.
2/ المواطنة في الثقافة الغربية
في مقابل الثقافة العربية الإسلامية، لم تكن المجتمعات الأوروبية الوسيطة في ظل نمط الإنتاج الإقطاعي أفضل حظا من العرب في معرفة والتعامل مع المفاهيم موضوع البحث قبل الثورة الفرنسية 1789م التي أطاحت بالملكية وحطمت الفيودالية ونسفت ألقابها الطبقية من دوق وكونت وبارون... وعوضتها بلقب موحّد "مُوَاطِنٌ" ساوى بين الناس وحررهم من قيود العبودية في وطن « patrie »، يجمع بينهم ويضمن حقوقهم ويطالبهم بواجباتهم. شرطان لازمان لبناء لحمة اجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد وضروريان لقيام الدولة الحديثة.
لقد أحيت الثورة الفرنسية مفهوم المواطن وأعادته إلى سياق التاريخ الإنساني مع تغيير جوهري في معناه السوسيولوجي والسياسي، بعد أن نزعت عنه شائبة التّمييز الطبقي وطهرته من إيديولوجيا الإغريق؛ الضاربة في التّفرقة بين قلّة من سكّان المدينة من الدّرجة الأولى يمثلون أشرافها ونبلاءها، يتمتعون بلقب "المواطن"؛ وغالبية سكان نفس المدينة يشكلون مختلف الدّرجات الاجتماعية الدنيا من عبيد وخدم يحرمون بالولادة من صفة "المواطن". هذا ما جعل "سان سيمون" يتخلص دون تردّد من استعلائه الطبقي، الوراثي "الكونت" ويخلع على نفسه لقب "مواطن" ليتساوى مع باقي أفراد الشعب ويكون واحدا منهم، فقال قولته الشهيرة: "اعلمكم بأنّي قد تخليت عن لقب الكونت واخترت لقب المواطن، فنحن جميعا متساوون وأنّ صفة الكونت وضيعة جدا أمام صفة المواطن..."(4)
II - بعض الملاحظات المنهجية
أولا: إنّ لقب "مواطن" لم يكن منّة من ملوك فرنسا ولا من نبلائها على رعاياهم، بل إنّ المستضعفين والمعذّبين هم الذين انتزعوا هذا اللقب ومنحوه لذواتهم وورّثوه لأبنائهم وأحفادهم، ودفعوا ثمنه دماءهم وأرواحهم حتى لا يجرؤ على انتزاعه منهم أحد في وطن هو ملك للجميع ويتساوى فيه الجميع.
ثانيا: إنّ الصفات المترتبة على مفهوم المواطن مثل الوطنية عموما والمواطنة خصوصا، لم تتزامن مع المفهوم الأول، بل هي نتيجة تطور المجتمعات الأوروبية عبر الزمن، لتفرز مع كل مرحلة مفهوما جديدا يتماشى ومتطلبات المرحلة؛ علما وأنّ الوطنية تترجم في اللغة الفرنسية « patriotisme » وهي المجال النظري الذي ينظم حقل الممارسات الفعلية في بعديها الأخلاقي والقانوني لمفهوم المواطنة « citoyenneté » تحت سقف الدولة الوطنية، ضمن لعبة الحقوق والواجبات التي تحدّد بالأساس شبكة المكنات والأدوار الاجتماعية، حيث تُبْنَى وتتشكل وتُحْمَى فعليا علاقة الفرد و/أو الأفراد السياسية والاقتصادية والثقافية والقانونية بالدولة.
ثالثا: إنّ المواطنة على وزن مفاعلة بمعنى المشاركة التي تتحقق من خلالها معاني التّجريد والتّجسيد لكل فرد داخل وطنه، إذ لا يكفي انتساب الفرد إلى وطن ما بالولادة والجنسية والولاء، بل أنّ الضرورة تقتضي الانتقال من الإطار النظري وهو (الوطنية) إلى المجال الإجرائي أي (المواطنة) من خلال توليفة الواجبات والحقوق التي تستمد قوتها من القوانين الجاري بها العمل وعلى رأسها عدالة اجتماعية والتّوزيع العادل للثروات بين مختلف جهات البلد الواحد وتساوي الفرص في الشغل والعلاج والتّعليم...
رابعا: لن تتحقق المواطنة إجرائيا إلا بعد بناء أرضية صلبة من الحريات العامة والديمقراطية للجميع، تسمح بحراك اجتماعي يكفل رقيّ المتساكنين إلى مرتبة مواطنين، فاعلين/مسؤولين في كل جوانب معيشهم، تحت مظلة دولة القانون التي ما وجدت إلا خادمة للجميع.
بعد مضي أكثر من نصف قرن على استقلال البلدان العربية، لا نزال في العالم العربي بجناحيه (المشرق والمغرب) نتساءل هل ارتقى الإنسان العربي إلى مكانة المواطن؟ هل يتصف السكان العرب حيثما كانوا بصفة المواطنين الفاعلين/المتفاعلين القادرين على كسر أسوار سجونهم الضخمة وتحويل الأسطورة إلى واقع اجتماعي وسياسي لا تضيع فيه المواطنة بضياع المساواة والعدالة والكرامة؟.
III - المواطنة مفهوم غريب في المجتمعات المغاربية الرّاهنة.
يشكل غياب مفهوم المواطنة عن مجتمعات المغرب العربي المستقل أبرز العلامات الفارقة بينها وبين مجتمعات الغرب الذي استلهم منه بناة الدول الوطنية في المغرب العربي مشروع الحداثة ومنهجية التّحديث. اختصارا للمسافات التاريخية واختزالا لمراحل التّطور الحضاري والتّكنولوجي، أوهم الآباء المؤسسون للدولة الوطنية بمنح (الرّعايا القدامى) لقب مواطنين، لتحفيزهم على الانخراط في مشاريعهم التحديثية. منذ البداية أسس حكّام المغرب العربي فلسفة تغيير أوضاع شعوبهم على أكذوبة كبرى هي المواطنة. تثبّتت تلك الأكذوبة في اللاوعي بفعل الزمن الجمعي ثم انزلقت باتجاه الوعي الجماهيري لتأخذ بعدها الأسطوري الحديث.
خلال خمسة عقود من الزمن، تمّ بنجاح تبادل الأدوار تدريجيا بين الأسطورة والحقيقة، فحل الوهم محل الواقع ليشكل تصورات اجتماعية متناغمة مع النّمط المجتمعي الجديد ويبني سلوكيات جماعية تخشى حتى التلميح لفشل الأنظمة المغاربية الحاكمة في تحقيق المواطنة، بتضييقها على الحريات ورفضها للديمقراطية، فصيّرت الأوطان سجونا كبيرة والمواطنين نزلاء يتحيّنون فرصة هجرة أوطانهم؛ وفئة ثانية من المتواكلين على الدولة في الشغل والصحة والتّعليم وفئة ثالثة دسّت رأسها في أطلال ماض مشرق. لقد عانت ولا تزال المجتمعات المغاربية من تعسّف القيادات السياسية على رباعية الوطن والمواطن والوطنية والمواطنة حتى استساغت الشعوب الاسترقاق ورضت الاستعباد ونسى الناس أنّ أمهاتهم قد ولدتهم أحرارا.
IV - التّلفيقية السياسية
في الزمن الرّاهن تعرّف المجتمعات المتقدمة على أنّها مجتمعات مفعمة بالحريات ومشبعة بالمواطنة في بعدها الإجرائي، يخدمها حكّام مواطنون برتبة رؤساء أو ملوك. تساعد منظومة الحكم هذه في خلق علاقة تفاعلية/أسموزية تجمع الشعب بالدولة، جعلت منهما وحدة سوسيو-سياسية مؤثرة في صيرورة التاريخ. حقيقة بعيدة المنال في مجتمعات المغرب الكبير، المصنفة عالميا من بين الدول النّامية أو المتخلفة حيث يمارس الحكّام وصايتهم على شعوب، لا تزال في نظرهم قاصرة، لم تنضج بعدُ لدخول عصر الديمقراطية.
من هنا شرعنت الدول العربية عموما والمغاربية خصوصا، إلغاء التّعددية وإقصاء أصحاب الفكر الحرّ وحاربت الرأي المخالف والرؤية المغايرة. حكّام لم يتخلصوا من ثقافة المنّ والإحسان التي وظفوها في استعلاءهم واستبدادهم، فتحصّنوا بهالة من القداسة والتّنزيه والعصمة، حولتهم من منظور الأسطورة إلى ما يشبه الآلهة اليونانية القديمة.
فكّك المستعمر الروابط العضوية التقليدية التي قامت بين الحاكم والمحكوم على أساس شرعية ولي الأمر وطاعته التي هي من طاعة الله " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ "(5)، تاركا هوة سحيقة بين طرفي المعادلة. ورثت الدولة الوطنية هذا الخلط المفهوماتي ولم تعمل على تصحيح ما أفسده الاستعمار، فازدادت معادلة الحكم في ظل الاستقلال تعقيدا، أساسه النّزعة التّلفيقية بين عنصر ثقافي أصيل (التّسليم ) وعنصر غربي دخيل (التّخيير).
رغم الطابع العلماني للدولة الوطنية في المغرب الكبير وتأثر الشعوب المغلوبة بثقافة الغالب(6) إلا أنّ الموطنة لم تصادف هوى الحكّام العرب والمغاربة الذين يصّرون [حتى في زمن العولمة] على إلباس العنصر الأنثروبولوجي (واجب السّمع الطّاعة) لبوس الحداثة (حق المواطنة) في انعدام الحريات وغياب الديمقراطية، فلم تلقى بالتالي المواطنة طريقها إلى التطبيق على أرض الواقع.
V - منظومة الحقوق والواجبات في المغرب العربي
البحث في مفهوم المواطنة يجرنا حتما إلى الحديث عن حزمة الحقوق التي ينعم بها المواطن المغاربي وما عليه من واجبات. تندرج هذه المنظومة في دساتير كل بلد من بلدان المغرب العربي، بطريقة تجعل انكارها أمرا مستحيلا على الباحثين المتحلّين بالموضوعية، رغم ما تتصف به هذه الدساتير من تعميمية ومطاطية، تتيح للمشرّع بوضع المجلاّت الانتخابية، استجابة لرغبات الحزب الواحد بما يضمن ويدعم أسطرة مفهوم المواطنة.
1 - حق الانتخاب
من الأمثلة الصارخة المُجَسِّدَةِ لأسطورة المواطنة في شكلها العربي ما يعتبره الحاكم حق "المواطنين" في الانتخاب، وهو حق دستوري بامتياز في الدول الديمقراطية. أما في مغربنا فلا يعدو أن يكون تمثيلية فاشلة، بفشل السلطة التي أقرّتها. لقد تميّزت الانتخابات في العالم العربي بميزتين لا ثالث لهما.
غياب التّعددية الحزبية للتنافس على منصب الرئاسة من ناحية ومقاعد البرلمان من ناحية ثانية على أساس برامج سياسية وإنمائية، تتيح للمواطن/النّاخب ممارسة مواطنته استنادا لمبدأ الوطنية.
تزوير نتائج الانتخابات ارضاء لسلطة لا تقبل بأقل من 99،99 من الأصوات وهي في الوقت ذاته نفس نسبة التّزوير الرّسمي.
حصل هذا حتى في زمن كثر فيه الحديث عن انتخابات تعدّدية حصلت في تونس مثلا، في ثمانينيات القرن الماضي، انتخابات شبهها التونسيون بالحنّاء التي تبيت خضراء وتصبح حمراء، في إشارة لاستبدال الأوراق الخضراء المعارضة (الفائزة) بأوراق الحزب الحاكم ذات اللّون الأحمر (الخاسرة).
وفي حالات نادرة يتجرأ الحزب الحاكم على إلغاء نتائج الانتخابات (مثال الجزائر سنة 2002، إلغاء فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ).
2 - حق المواطنين على الدولة
منذ سنة 1960 انطلقت في تونس كما في كلّ بلدان المغرب العربي برامج تنموية بتمويلات ومساعدات وخبرات خارجية (شرقا وغربا)، متأتية أساسا من البنك الدولي للإنشاء والتّعمير (BIRD) وصندوق النّقد الدولي (FMI) والوكالة الأمريكية للتّنمية (US/AID) ومن بعض الدول العربية النفطية. أموال طائلة دخلت الخزينة التونسية لا يعلم المواطنون مبالغها ولا مصيرها، في غياب شفافية السلطة التّنفيذية وانعدام محاسبة السلطة التّشريعية. ثم تأتي الثورة التونسية في 2011 لتكشّف للتونسيين حقيقة واقعهم المرير. كل التونسيين الأحياء وأبناؤهم وأحفادهم مدينين للبنوك الدولية بعشرات الآلاف من الدولارات التي انحرفت عن أهدافها التّنموية وسرقت من قلّة قليلة أثرت على حساب جهات لا تزال تعيش في القرون الوسطى.
3 - حق الدولة على المواطنين
كما للمواطنين حقوقا فإنّ للدولة عليهم حقوقا، أهمها حق ممارسة العنف بكل أشكاله عليهم، بحبسهم ونفيهم وانتزاع جنسيتهم وتصفيتهم جسديا. تضيق هذه الورقة على ذكر الوقائع التاريخية ولمن يريد البحث فيها عليه بالعودة إلى أدبيات سنوات الجمر في تونس وسنوات القمع السوداء في المغرب...وكأننا أمام أنظمة حكم مغاربية مستنسخة الأساليب موحدّة الفكر والهوى.
4 - واجبـــــات المواطنين نحو الدولة
في الوقت الذي يحرم فيه المواطنون من أبسط حقوقهم السياسية، تراهم يرزحون تحت وطأة جملة من الواجبات، بدأ بالجباية وانتهاء بالصمت وتكميم الأفواه والسّمع والطاعة والاكتفاء والرضا... حتى أصبحت الأوطان طاردة للعديد من خبراتها العلمية المتفوّقة، في ظاهرة تعرف بنزيف أو هجرة الأدمغة « Le drain brain » إلى جانب شباب تنهش أحلامه بطالة قاتلة. أوطان يدّعي حكّامها الوطنية والاستقلال والسيادة، وهم في الأصل شريحة من السّماسرة (الكمبرادورين) الذين حلّوا محلّ المستعمر في استرقاق السكّان والاستمتاع بخيرات البلاد تاركين الفتات للمحرومين والمعذّبين في الأرض على رأي "فرانز فانون"، بعد أن احتموا بقوانين جائرة وحصّنوا انحرافاتهم وجرائم أهاليهم وحلفائهم بإضافة فصول دستورية فيما يعرف (بتنقيح الدساتير) ثم تحالفوا مع قوى إمبريالية، تحصنا من غضب شعوب زجّوا بها في دوائر الاستهلاك والتّبعية الهيكلية، أفقدت الجميع كل مقوّمات الاستقلال والحرية والكرامة.
5 - واجبات الدولة نحو المواطنين
أما واجبات الدولة نحو المواطنين فهي كثيرة ومتعدّدة، في طليعتها الصحة والتّشغيل والسّكن وتوفير رغد العيش ونشرة المساواة والعدالة الاجتماعية بين مختلف أفراد المجتمع دون عنصرية ولا جهوية ولا مذهبية حتى يستتِّب الأمن والسّلم الاجتماعييين. تتفاوت نجاحات الدول في القيام بواجباتها، يلمس هذا التفاوت في تطّور و/أو تدني مؤشرات التّنمية وارتفاع و/أو انخفاض معدل المديونية والغرق و/أو التّخلص من التّبعية... الخ.
وبعد انخراط الدول المغاربية في سياق الاقتصاد الدولي المعولم، بات واضحا رضوخ حكّامها لتعليمات وشروط المؤسسات المالية، العالمية، المانحة بالتّخلّي التدّرجي والممنهج عن أوكد واجباتهم الوطنية، وهي السياسات الاجتماعية ( تعليم وصحة وتشغيل) التي لولاها لفقدت الزّعامات سلطانها نظرا لهشاشة شرعيتها وانعدام الثّقة في نزاهتها وارتباك مصداقيتها.
الخاتمـــــــــــة
تلك هي المواطنة/الأسطورة التي حوّلت أوطاننا العربية إلى "ميغا – سجون" تستهلك الكثير ولا تنتج إلا القليل، ففقدت كل أنواع الأمن (الغذائي والدوائي والتكنولوجي والدّفاعي)، حلّلناها من خلال بعض الأمثلة الملموسة عن انعدام مفهوم المواطنة في حدود الموضوعية العلمية.
المواطنة في أبسط معانيها هي حزمة الحقوق والواجبات، كما عرفتها وأقرتها الدساتير العربية فاعتبرتها دعامة الوفاق الاجتماعي، الضامن للحقوق الفردية والجماعية التي (للأسف) تجاهلها حكّامنا وغيّبوها عن واقعنا الاجتماعي ومعيشنا اليومي. لقد ثبت أنّ الدساتير العربية ما كتبت إلا لشرعنة العنف الرّسمي والاستبداد وتقييد الحريات باسم التّرابط العضوي بين الرؤى والأفكار والاتجاهات الوطنية المختلفة تحت مظلة الدولة الوطنية ومباركة علماء الدين [علماء السلطان ونخبه التقليدية(*)].
أريد أن أختم بالقول أنّ قادة المغرب العربي اتخوا من الوطنية والمواطنة أهم تعلّة لتعطيل بناء اتحاد دول المنطقة الذي وقعوا على إعلانه في 17 فيغري 1989م الموافق لــ 10 رجب 1409هـ بمدينة مراكش. وهو رأي قابل للمناقشة.
نحن مام مواطنة براغمتية، لمّا تعطّل دور الأسطورة في تمرير أخطاء وخطايا السلطة في تونس ديسمبر 2010 وجانفي 2011، ثار الشعب وأسقط منظومة الفساد من ناحية، وفشلت الحكومات الانتقالية في بناء الجمهورية الثانية.
لا وطن بلا مواطن ولا مواطن بلا مواطنة ولا مواطنة بلا ديمقراطية ولا ديمقراطية بلا كرامة ولا كرامة بلا انتماء ولا انتماء بلا أرض ولا أرض بلا عرض...أمانة ثقيلة، متكاملة الأركان حملها الإنسان فكان جهولا ظلوما، فمن أدّاها ارتفع ومن خانها سقط. تلك هي المواطنة في أقطار المغرب العربي... أسطورة لا بد منها.
------------
*) وهو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة؛ سواء كان هذا المضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم صحابياً أو غير صحابيا، وسواء كان هذا الإسناد متصلاً أم لا.
1) يعتبر رواد المنهج العقلي مثل"لابيير La Pier و"فارنزورث Farnsworth" أنّ نشوء الأسطورة كان نتيجة سوء فهم ارتكبه أفراد في تفسيرهم، أو قراءتهم أو سردهم لرواية أو حادث أو تفسير الخاطئ لمفهوم أو مصطلح.
2) لسان العرب
3) الشعراء الآية 195
4) سان سيمون، من كتاب المسيحية الجديدة
5) النساء الآية 59
6) راجع نظرية ابن خلدون، ولع المغلوب بالاقتداء بالغالب، الفصل الثالث والعشرون من الباب الثاني من المقدمة.
*) النّخب التقليدية، عبارة مستلهمة من المصطلح الغرامشي "المثقف التقليدي".
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: