تفاعلا مع حديث الأستاذ الشاذلي القليبي إلى القناة الوطنية الأولى (2)
محمد المختار القلالي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3748 Kallalimoktar@gmail.com
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تساءلت في حديث سابق عن مدى حظ ‘ التجربة البورقيبيّة’ من الحداثة، وانتهى بي النّظر، على خلاف السائد، إلى أنّ من العسف على التاريخ خلع سمة ‘ الحداثة’ على دولة الاستقلال. واليوم ، برّا بوعدي، أودّ أن أتوقّف قليلا عند موقف الرئيس الرّاحل من الدّين. وهو أحد المحاور الذي تعرّض لها حوار القناة الوطنية الأولى مع الأستاذ الشاذلي القليبي في الحلقة التي بثت بتاريخ 18 أكتوبر 2015 من برنامج ‘ قهوة عربي’.
قال الأستاذ القليبي ردّا عن سؤال مقدّمة البرنامج حول موقف بورقيبة من الإسلام :’ أنا أعتقد أن بورقيبة كان أكثر الناس فهما لجوهر الدين’، مستدلا على ذلك بوجاهة دعوته إلى التخلي عن صوم رمضان، و بمنعه تعدد الزوجات. وهي ذرائع تحولت لكثرة صداها في الآذان إلى ما يشبه الاستماع إلى إسطوانة مشروخة.
أنا لن أعنى إطلاقا بالنبش في عقيدة بورقيبة لمعرفة ما إذا كان الرجل مؤمنا أو متشككا أو حتى من ‘ القوم النفاة’، فذاك شأنه ، لا يعني أحدا سواه. و متى كان للناس سلطان على الناس فيما يعتقدون أو ينكرون ؟ علما أن الله وحده العالم بالسرائر و ما تخفي الصدور.
ما يعنينا في هذا الخصوص هو كيف تعاطى بورقيبة الرئيس لدولة دينها الإسلام، و لشعب سواده الأعظم من المسلمين مع ‘ الشأن الديني’، و إلام آلت ‘ مغامرة’ الرجل في هذا المجال؟
ما من شك في أن بورقيبة قد أثاره، و البلد يتوثب للنهوض، ما وجد عليه عامة التونسيين من تدين موغل في التقليد ، و من فهم ملتبس لصحيح الدين ، فشاء أن يحدث القطيعة مع هذا الواقع نظرا لعلاقته العضوية بمعركة الخروج من التخلف.
وعليه قد يكون من الإجحاف بحق الرجل عدم الاعتراف له بقدر من حسن النية و نبل المقصد. لكن ما أهمية النوايا إن هي انتهت إلى ما يزيد الحال تأزما و تعقيدا من حيث يراد لها التقويم و الإصلاح؟
لقد أراد بورقيبة أن ينهض بدور’ المصلح الديني’ في بيئة تحتاج إلى ‘إصلاح ديني’ ولا شك ، لكن فاته، في اعتقادي، أن يعنى بإعداد العدة اللازمة لخوض ‘مغامرته’.
ليت بورقيبة ، وقد ارتأى النهوض لهذه المهمة ، حرص على :
• كسب ثقة الجمهور في نزاهة موقفه من الدين و في صدق حرصه على خدمته.
• تشريك ‘ أهل الرأي و المشورة ‘ في ضبط سياسة دينية واقعية و مستنيرة، تؤمّن التأطير الديني السويّ.
• تجنب المس بـ’ المعلوم من الدين بالضرورة’ (العبادات أساسا) تفاديا لما من شأنه أت يثير حفيظة الناس ويحدث البلبلة في صفوفهم.
• فسح المجال لنشأة حركة فكرية تجادل في ‘ المقدس’ بهدف الترويج للفكر المستنير، خليقة بمحاصرة الأفكار الجانحة إلى التعصب بشتى صوره و أشكاله.
لكن ، وعلى النقيض من ذلك، وجدنا بورقيبة ، مع الأسف الشديد ، قد أبى إلا أن يظهر، لدى قسم هام من التونسيين، بمظهر من يعادي الدين، المستخف به و برموزه، المزعزع لثوابته و أركانه، ما أفقد الثقة في نزاهة مسعاه، و بعث الريبة في مقصده، كما فرض، غفر الله له ، هيمنته المطلقة على المجال الديني ، ولامس تخوم المحظور بدعوته دون مواربة إلى التحلّل من إحدى الفرائض الخمس. هذا ولم تشهد أيامه إطلاق حركة فكرية حرة تتناول ‘المسكوت عنه’ فتجادل فيه جدالا هادئا عميقا ، ينفض الغبار عن الموروث، و يثير التساؤل، و يرسي ‘ ثقافة التنسيب’ ، ويؤصّل للتسامح مهما تباينت القراءات.
أما بخصوص دعوة التونسيين إلى ترك الصيام على اعتبارهم في جهاد ضد التخلف قياسا على ترخيص النبي عليه السلام لأصحابه في الإفطار، وهم في الطريق إلى فتح مكة فبدعة لم يقل بها أحد، و تلبيس لا ينطلي على متبصّر، ذلك أن فتوى النبي ، على افتراض صحة الرواية ، اقتضتها ظروف مناخية قاسية ، و لمدة لا تتجاوز ما تضطر إليه الحال ، ثم هي ، في النهاية، لا تعني سوى من كان مع النبي من المقاتلين. فكيف يسوغ القياس عليها، و ‘الإفتاء’ على ضوئها بالتحلل من فريضة الصوم بالجملة ؟
يبقى عليّ أن أشير بشأن ‘منع تعدد الزوجات ‘ إلى أن الأمانة تقتضي القول بأن بورقيبة ليس هو من نظّر لذلك، فقد سبقه إلى هذا الرأي، الذي لا يزال يثير الجدل حوله حتى اليوم، عدد من المصلحين و الشيوخ القائلين بالمقاصد. و ما يحسب للرئيس الراحل لا يتعدى تنزيله هذا ‘ الاجتهاد’ في دنيا الواقع بإضفاء الصبغة القانونية عليه. وليعد من شاء إلى ما جاء في كتاب ‘ امرأتنا في الشريعة و المجتمع’ للمرحوم الطاهر الحداد ، على سبيل المثال، ليقف على أن بورقيبة لم يأت بشيء من عنده إطلاقا. تقول العرب :’عزو الفضل إلى أهله فرض عين.’
وبالخلاصة ، فقد جانب بورقيبة الصواب، بنظري ، لما أن جعل مقاربته للمسألة الدينية تقوم على ‘سياسة الصدمة’ بدلا من أن يتوسل ‘الثقافي’ في تعاطيه مع ‘إشكالية’ هي ثقافية بالأساس، و لما جعل الغاية من ‘‘عنايته’’ بالدين لا تتعدى تعزيز شرعيته و خدمة مشروعه السياسي .
هذه المعالجة ‘‘ المتشنّجة ‘‘ ، والقائمة على حصر دور الدين في خدمة ‘‘ الحاكم بأمره ‘‘ ومشروعه يرى إليها الكثيرون على أنها أحد أبرز الأسباب في ما نعانيه اليوم من جنوح إلى التطرّف إن إلى اليمين أو إلى الشمال ، تطرّفا بات يهدّد وحدتنا الوطنية ، ويصرفنا عن التوجّه إلى قضايانا المصيرية ومشكلاتنا الحياتية ، ملقين التّبعات على بورقيبة بالدرجة الأولى بما هو من ارتأى أن ينصّب نفسه وصيّا شرعيّا وحيدا على الشعب، دون التقليل بالطبع من مسؤولية خلفه الذي زاد في الطنبور نغمة.
الأستاذ الشاذلي القليبي شخصية وطنية جديرة بالاحترام و لا شك، ساهم من مواقع مختلفة في العمل الوطني و القومي، و لم يلمز قط بسوء إبان الحكم المطلق في ظل ‘دولة الفرد’، بيد أنني وددت ، وهو فينا ذو سن ، أطال الله في أنفاسه، لو هو تفضل علينا بقراءة أكثر توازنا للتجربة البورقيبية خصوصا وهو من عجم عود صاحبها، ولعله أن يفعل بعد هذه ‘ الدغدغة’ البريئة لنقرأ له شهادة لا تمجد و لا تفند ، و تتسامى عن المجاملة التي تلتقي و ‘التحامل’ في وظيفة واحدة هي تزوير الحقيقة . و لا إخال بهذا المعنيين الجدل إلا مرحبين بمساهمة الغراء إلا مرحبة بمساهمة منه تثري الحوار و تعمقه، و تساعدنا، في الأخير، كطلاب حق على تلمس الحق.
وفي انتظار ذلك له مني بالمناسبة أصدق مشاعر التقدير و المودة و الاحترام.
- ذو سن : تطلق على من حنكته التجارب و تحلى بالحكمة.
---------------
محمد المختار القلالي
*عضو اتّحاد الكتّاب التّونسيّين
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: