أنس الشابي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7195
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
منذ انتخابات 23 أكتوبر 2011 يتعرض الوطن إلى هجمة ممنهجة بنيّة تغيير ملامحه وإفساد صورته التي صاغها التاريخ المشترك وتعوَّد عليها الناس وألِـفـوها، وقد طالت هذه الهجمة جلّ الرموز والشعارات التي ارتبطت بوجدان التونسي وبعقلنا الجمعي وذلك بغية تخريب كل ما يذكِّر بتونس التي بناها أبناؤها ورعَوْها طيلة قرون إذ ذهب في ظن البعض من مُختلِّي المدارك إلى أن إلغاء الأوطان أمر يسير وفي المتناول وأن تلفيق التواريخ إلى بعضها البعض وافتعال الرموز أمر يكسبهم شرعية تاريخية فأجهدوا أنفسهم لخلق زعامات بانت على حقيقة ما هي عليه من هزال وخفة وهوان عند أوّل ظهور لها واخترعوا أسماءوتواريخ ظهر زيفها وبطلانها بمرور الوقت، فما سمي ثورة وربيعا عربيا لم يكن كذلك إذ بدأت تنكشف الأيادي التي خطّطت وموّلت وأرسلت القناصة للقتل تأجيجا لنار العنف التي استشرت، بدا ذلك بوضوح خصوصا بعد تنحية مرسي وإيداعه السجن وظهور الوثائق التي تثبت أن ما حدث إنما هو صناعة أجنبية لا دخل فيها للقوى الوطنية، هذا المخطّط الأجنبي الذي سُمِّي ربيعا عربيا نجد توابعه في اللهاث المحموم لِمن أفرزتهم انتخابات 23 أكتوبر من أجل الإسراع في وأد الصورة التي لدى التونسي عن وطنه وهي صورة مفرداتها الرموز والشخوص والقوانين والذكريات في انتظار تعويضها بأمة موهومة لا وجود لها إلا في عقول مبتكريها، وفيما يلي نورد أهمّ ما سعت منظومة 23 أكتوبر إلى تغييره:
1)النشيد الوطني استشهد في سبيل رفعه والتغني به الخيرة من أبناء الوطن ممّن قدّموا أرواحهم فداء له، نشيد الثورة هو الحبل السري الذي يربط الأجيال ببعضها ويوحّدها ويجمعها في حبّ الوطن، تعرّض إلى محاولة تغيير عن طريق الادعاء بأن به أخطاء والحال أن من تفوّه بذلك لم نقرأ له حرفا واحدا نشره كما أننا لم نسمع باسمه إلا في مجلس 23 أكتوبر، وذهب عضو آخر في المجلس المذكور إلى القول بأن النشيد لم يعد مواكبا للتغييرات الحالية لأنه قيل في ظروف مقاومة الاستعمار(1)وفي هذا استخفاف بالرموز التي لا تتغير إلا إذا كان هنالك موجب وداع يبرّران ذلكوواضح أن هذا الكلام لا يستقيم لأن أي نشيد وطني إنما هو محفّز للهمم وداع للاستعداد لحماية الوطن وتذكير بانتصارات الأسلاف على المعتدين، هذه المعاني غائبة تماما عن الأذهان التي لا تميّز بين النفقة والحضانة.
2)في الفصل الرابع من مسودّة دستور مجلس 23 أكتوبر المتعلق بشعار الجمهورية تمت إضافة كلمة كرامة للشعار السابق وبَيِّن أن هذه الإضافة تؤشر على جهالة لا نظير لها باللغة العربية من ناحية وبالشروط الواجب توفّرها في المصطلحات التي تدرج ضمن الدستور الذي هو أب القوانين وأكثرها ضبطا ودقة من حيث المعاني، فلغةً الكرامة اسم جامع لكلّ ما يُحمد من أنواع الخير والشرف والفضائل وهي كذلك اسم للطبق الذي يوضع على رأس الحب والقدر ويقال حمل إليه الكرامةوهي ضدّ اللؤم(2) وتطلق كذلك على الأمر الخارق للعادة الذي يأتيه الأولياء الصالحون وهي مرتبة دون مرتبة النبوة فأيّ هذه المعاني يقصد أعضاء المجلس المذكور،هذا من ناحية ومن ناحية أخرى إن الكرامة صفة لا تقوم بذاتها بل بغيرها وتتغير بتغير الأزمان والأعراف والتقاليد فكرامة العربي ليست هي نفسها الكرامة لدى الألماني أو الياباني..... وليست هي ذاتها هذه الأيام وقبل مائة سنة.... هي صفة لجملة من الأفعال ولا تحمل أي معنى قانوني أو دستوري لأن العدالة وحدها تحفظ كرامة الإنسان فتمكنه من حقوقه وتمنع الغير من إيذائه، وهكذا نلحظ أن جماعة المجلس المذكور مصرّون على تغيير كل ما يذكّر التونسي بالاستقلال ورجاله حتى وإن وصل بهم الأمر إلى هذه الحدود من المهانة المعرفية، علما بأن آخر من يحقّ له الحديث عن الكرامة بأيّ من المفاهيم التي ذكرناها هو هذا المجلس الذي يُشترى فيه الأعضاء ويباعون كالعبيد تماما فهل يصحّ لفاقد الشيء أن يطالب به غيره؟ وهل فُقد الحياء حتى يتجرّأ مجلس النخاسة على الوصف الضمنيللمجلس التأسيسي الذي أسّس للجمهورية ونظامها ومؤسّساتها بأنه فاقد للكرامة لذا لم يضعها في طغرائه وجاء هو لإتمام النقص؟.
3)ضمن نفس الإطار تمتنع سلط 23 أكتوبر عن الاحتفال بالأعياد الوطنية بما يقتضي ذلك من رفع للأعلام ومظاهر الزينة غرسالمعاني الترابط بين أبناء البلاد، الذي حدث لدينا أنه بجانب التغافل قامت هذه السلطة بمعاقبة الذين خرجوا للاحتفال بعيد الشهداء في 9 أفريل2012 بالاعتداء المبرح عليهم وقد كان كاتب هذه السطور حاضرا في مشهد ما كنت أتصور أن يحدث أبدا والعجيب أن اللجنة التي كلفت بالتحقيق قُبرت وكأن المواطنين هم الذين اعتدوا على الذين أرسلهم علي العريض لضرب وتفريق شبان وشابات لم يعرفوا الاستقلال إلا بالواسطة والأغرب من كل هذا أن محاولات تغيير العلم تترى أخبارها، فقد كشف رئيسالمعهد التونسي للعلاقات الناشط الحقوقي أحمد المناعي "أن الرئيس التونسي منصف المرزوقي كان يخطط لتغيير العلم التونسي وتقسيم تونس إلى أقاليم من خلال وثيقة كان كتبها المرزوقي واطلع عليها المناعي الذي قال في تصريح لأفريكان مانجر إن المرزوقي كان كتب هذا المخطط ضمن كتاب كان ينوي نشره في فرنسا واطلع عليه إلا أن دور النشر الفرنسية لم توافق على نشر هذا الكتاب الذي اعتبرت أن ما كتبه المرزوقي لا يرتقي إلى منزلة كتاب"(3)كل هذا بجانب التغاضي عمّن أزال العلم في جامعة منوبة أو أحرقه في بنزرت أو رفع أعلام أخرى كالسواد الذي يرمز للخلافة السادسة وفق تعبير حمادي الجبالي.
4)"الرائد التونسي" أوّل جريدة رسمية صدرت في بلادنا يوم 22 جويلية 1860 اختار لها هذا الاسم منشئها الجنرال خير الدين باشا وقد أعانه في ذلك نخبة من روّاد الإصلاح كالجنرال حسين والعربي زروق ومحمود قبادو وغيرهم كما احتضنت في قسمها غير الرسمي النخبة التونسية المستنيرة التي دخلت العصر من بوابة الرائد كسالم بوحاجب والبيارمة بمختلف طبقاتهم ومحمد السنوسي والباجي المسعودي وغيرهم بحيث أصبح الرائد ديوان الحداثة الذي لا غنى عنه لكل من أراد تلمس الشخصية التونسية من خلال آثار أبنائها، وفي 29 جويلية 1928 تمحّض الرائد لنشر القرارات والأوامر وغيرها من النصوص القانونية وانتقلت النصوص الأدبية والتاريخية والقصائد إلى غيره من الجرائد أيامها أصبحت تسميته كالتالي "الرائد الرسمي التونسي"، في 26 جويلية 1957 وبعد تغير النظام وسقوط الملكية أصبحت تسميته "الرائد الرسمي للجمهورية التونسية" والملاحظ أنه في كل المراحل التاريخية بقي الرائد حاضرا في كل التسميات لأنه أصبح جزء من الذاكرة الجماعية ومكوّنا من مكوّنات الخطاب التونسي في الصحافة والمحاكم والمدارس والكليات والمنتديات..... هذه الأيام طلع واحد من نسل 23 أكتوبر واقترح تغيير تسمية الرائد بما يحمل من عبق التاريخ والانتماء بتسمية هجينة هي الجريدة الرسمية مفصحا بذلك عن جهالة لا حدود لها وعماهة لم يسبقه إليها كائن على وجه البسيطة مبرّرا ذلك بتوحيد المصطلحات مع الدول الأخرى معتقدا في نفسه أنه لمّا دخل مجلس 23 أكتوبر نال عضوية مجمع اللغة العربية والحال أن مصطلح الرائد تنفرد به تونس من بين الدول ذات اللسان العربي جميعها كما أنه يحمل معانى التقدم والوثوبوالتوق إلى الأفضل والقيادة والمستقبل والريادة وهي معان قصدها الجنرال خير الدين ولكنها خفيت عن عُمي البصر والبصيرة لأنها لا تظهر وتبين إلا لمن انغرس في تربة الوطن وعرك تاريخه وشخوصه ورموزه وعاش بينهم ومعهم في ثنايا الكتب والصحف والوثائق وفي دروب الوطن وأزقته.
5) بعد أن نشر المؤقت محدود الصلاحية كتابه الأسود ولم يفلح أعوانه في الدفاع عنه ووقعوا في حيص بيص لم يجد مفرّا إلا الادعاء بأن الكتاب غير مخصّص للتوزيع وأن نسخة منه سرقت من المطبعة الرسمية، وكما يقول مثلنا العامي البليغ جاء يطبها عماها، فبدل أن يجد له مفرّا وملجأ من سوء صنيعه بما سوّد أوقع نفسه في جريمة تاريخية وفضيحة معرفية اعتدى فيها على صرح من صروح العلم والثقافة في تونس، تونس الوطن الذي لا يعرفه لا هو ولا من جاؤوا معه في 23 أكتوبر. تأسّست المطبعة الرسمية التي كانت تسمى "مطبعة تونس المحروسة" خلال سنة 1857 في عهد محمد باشا باي وباشرت أعمالها إلى يومنا هذا فطبعت كل متعلقات الدولة من قوانين ومناشير مفردة كما نشرت الرائد منذ تأسيسه إلى يومنا الناس هذا، بجانب ما ذكرت أدت المطبعة دورا أساسيا في نشر الكتب الثقافية لأوّل مرّة في تونس ومن العناوين التي نشرت في سنواتها الأولى ديوان حسان بن ثابت والبهجة الحسينية في التواريخ الحالية ولوعة الشاكي ودمعة الباكي والمؤنس في أخبار إفريقية وتونس...(4)منذ تأسيسها قبل ما يفوق 150 سنة لم نسمع ولا قرأنا فيما وقع بين أيدينا من وثائق أن مطبعة تونس المحروسة تعرضت لهذا الذي يدّعيه المؤقت محدود الصلاحية رغم أنها نشرت آلاف الكتب والوثائق منها ما هو سرّي ومنها ما هو غير ذلك، بدل اتهام هذا الصرح الثقافي الذي يعتز به الوطن كان من الأولى للمؤقت محدود الصلاحية أن يبحث عن مسرّب كتابه الأسود بسؤال صالح عطية أحد المادحين المشهورينلليلى بن علي واللاهجين بأفضالها آناء الليل وأطراف النهار عمّن أعطاه نسخةاستظهر بها وعرضها في برنامجه، علما بأن صالح هذا لم يذكر اسمه ضمن أزلام النظام السابق الأمر الذي يؤشر على أن وراء الأكمة ما وراءها، نقول هذا الكلام ونحن على يقين أنه لم يُدرج ولم يُزل أي اسم إلا بإشارة من المؤقت محدود الصلاحية.
كان الله في عوننا وعونكم حماية لهذا الوطن من السفهاء والدجالين وشذاذ الآفاق الذين ابتلينا بهم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الهوامش
1)موقع بابنات بتاريخ 1 مارس 2012.
2)لسان العرب شرح لفظ كرم.
3)أفريكانمانجر بتاريخ 10 ديسمبر 2013.
4) نشرت قائمة كاملة في الكتب التي أعلن عنها في الرائد في سنواته الأولى في كتاب "تاريخ الصحافة العربية التونسية، 1860ـ1896" لمحمد الصالح المهيدي، تحقيق وإكمال أنس الشابي، نشر دار نقوش عربية ، تونس2010.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: