البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبمقالات رأي وبحوثالاتصال بنا
 
 
   
  الأكثر قراءة   المقالات الأقدم    
 
 
 
 
تصفح باقي الإدراجات
مقالات متعلقة بالكلمة : تونس

من وحي مطالبة لبنانيين بعودة الإحتلال الفرنسي

كاتب المقال نور الدين العلوي - تونس   
 المشاهدات: 1640



أبدأ من الخبر العجيب: لبنانيون يمضون بالآلاف على عريضة تطالب بعودة الاحتلال الفرنسي.. هذا خبر يجعل بشارة الخوري يتقلب في قبره، وربما أعاد تضمين هذا القهر التاريخي في قصيد الهوى والشباب لينوح بها عبد الوهاب في بلاد النيل. فالهوى والشباب ضاعا من يديه ومن يدي كل شاعر مجد الوطن.

أفزع إلى تأويل هذه العريضة بأنها ردة فعل عاطفية غاضبة على المصيبة التي حلت ببيروت خاصة وبلبنان عامة، وهي من جنس اتهام النخب الحاكمة بالفشل. ولكن بالنظر إلى وجود تعبيرات أخرى ممكنة ومتاحة عن الغضب الشعبي في المصائب والكوارث والأزمات، فإني أذهب إلى قراءة أخرى، ولو تيسر لي معرفة الممضين عليها لوجدت أنهم ليسوا حالة شاذة في الأقطار العربية. إني أراهم، دون معرفة الأسماء والصفات والمواقع الاجتماعية التي يحتلونها في لبنان، جزءا من نخبة عربية كسولة ومحافظة ورافضة لكل تغيير، رغم أنها في المعلن من أفكارها وسلوكها تصنف نفسها نخب تقدمية وثورية ومجددة. إني أراهم عينة من نخبة مريضة صنعتها دول مريضة.

دولة الريع خلقت نخبة محافظة

في البدء كانت الدول العربية مشاريع دول اجتماعية، فقد كشف الاستقلال عن الاحتلال المباشر أبنية اجتماعية هشة، وشعوبا فقيرة وجاهلة ومريضة بكل أمراض الدهر. وكان الفاعل الوحيد القادر على النهوض بهذه الشعوب دولة اجتماعية، في سياق التحديث الاقتصادي والاجتماعي. وكانت أطروحة التحديث المهيمنة هي التحديث على النمط الغربي، والفرنسي منه بالتحديد (خاصة ما كان من البلدان تحت الاحتلال الفرنسي). واحتاجت الدولة إلى جهاز دعاية فخلقت نخبتها الخاصة، وأوكلت إليها مهمة تحديث المجتمع عبر التعليم والثقافة والاقتصاد والسياسة.

مع استقرار المجتمعات ملكت هذه النخبة حق التقرير في مصير الشعوب في أدق تفاصيل اليومي المعيشي، وتملكت مواقع الفعل والفائدة (أو الغنيمة)، وتملكت بالتالي حق توجيه الناس نحو ما تريد وتنفيرهم مما لا ترغب. وصار جهدها ونشاطها أشبه بعمل إكلريوس ديني يملك حقيقة اللحظة والمستقبل، بما جعل كل طموح للتغيير يتحول إلى كفر.

مارست هذه النخب دورا مزدوجا فهي تتحدث إلى الشعب بضرورة الثورة والتغيير، ولكنها تبرر للأنظمة كل فعل معاد للتغيير، وتقبض بكل أريحية من ممارسة هذا الدور العجيب. وجدت الأنظمة في ذلك خلاصها، فالخطاب الثوري يقوم بدور تنفيس الأحقاد والخيبات من فشل التحديث الاقتصادي والاجتماعي، ولكن التبرير النخبوي كان كفيلا بتشريع وجود الأنظمة الفاسدة واستمرار فعلها التخريبي.

لقد كانت أعطيات الدولة للنخب وفيرة، فجعلت منها نخبا ريعية تتلمظ غنائم الدولة، وتكسل عن كل فعل تغييري، وتمعن في رومانسية ثورية لا يحاسبها عليها أحد.

الربيع العربي فضح النخب قبل الأنظمة

أوشك أن أضع مفردة الربيع العربي في باب المجاز الأدبي، فكمُّ الفشل في إدارة التغيير يوشك أن يحطم كل الآمال التي علقت عليه. لقد كان هذا الربيع حركة تغيير عميقة صعدت من الباطن الشعبي بدون أدنى دور للنخب التي نظرت للثورات وبررت للسلطة، وفي لحظة تعميق التغيير بوسائل السياسة قفزت النخب لقطع الطريق، فكان الانقلاب المصري، وكانت عودة منظومة ابن علي للحكم في تونس، وكان إجهاض الثورة في السودان وفي لبنان نفسه. نذر التغيير كانت تستهدف نخب التبرير التي شعرت بخطر فقدان مراكزها ومنافعها وأداورها؛ التي عاشت منها وباعت منها أوهام الثورة لشعوب لم تخرج من الأمية السياسية ومن الفقر طيلة زمن هيمنة هذه النخبة على صناعة الوعي.

وإذ أحاول قراءة عريضة المطالبة بعودة الاحتلال (الانتداب) إلى لبنان، فإني أقارن ولا أجد فرقا بين وقائع متشابهة، مثل مطالبة مثقفة تونسية متخصصة في حقوق الإنسان لوزير خارجية فرنسا بالقدوم إلى تونس وحماية الديمقراطية من "الإخوانجية"، ومثل سفر نواب المجلس التأسيسي إلى البرلمان الأوروبي لمطالبته بحل البرلمان التونسي الواقع من سيطرة "الإخوانجية"، ومثل نكران رئيس دولة تونس المنتخب بفضل الربيع العربي تاريخ الاحتلال الفرنسي لتونس؛ والاكتفاء بتوصيفه قانونيا كمرحلة حماية، قبل أن يقبل كتفي الرئيس الفرنسي في خضوع مذل.

إنه نفس التوجه النخبوي القائم على رفض التغيير، والمفارقة أن كل ذلك تم تحت شعارات الثورة والتغيير. إن كم التناقض الذي مارسته النخب العربية بعد الربيع العربي يكشف أن لا فرق بينها وبين كل تاجر متنفذ موشك على فقدان موقعه وغنيمته. فالتغيير يأتي بنخب جديدة ويقطع رزق المتنفذين، ولو كانوا تنفذوا بخطاب الثورة. وفي الحالة اللبنانية وصلت ردة الفعل إلى حالة من النكوص إلى ما قبل الاستقلال. إنها تقدمية عربية ذات مشروع تحديثي تعيد عجلة التاريخ قرنا إلى الوراء.

نخب خائنة بصراحة

هذا حكم أخلاقي متعسف على كثيرين، ولكن في الواقع عندما بحث المواطن العربي المجهول عن النخب لقيادة الثورة والتغيير وجدهم يطالبون بعودة الاستعمار أو ينقلبون بالعسكر على الديمقراطية.

يسعفنا الزمن بمقارنة "إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ".. هذا هو رأي غرامشي في المثقف المحافظ أو الرجعي أو النكوصي.

نظريا وحسب ما كتبته هذه النخب عبر تاريخها الطويل في التنظير، فإن ردة الفعل الوحيدة الأخلاقية والثورية بعد كارثة بيروت هي احتلال الشارع ودفع ثمن إسقاط النظام الطائفي الذي خرب لبنان، وهو الموقف الذي انتظره شعب مصر من نخبته فوجدها تبرر للعسكر، وهو ما انتظره شعب تونس من نخبه فوجدها تقبل كتف الرئيس الفرنسي وتنكر جهاد آبائها وأجدادها.

لقد بدا لهم أن عودة الاحتلال أيسر وأكثر جدوى من مقارعة حكامها في الشارع ودفع ثمن الدم والحرية. إنها طبيعة النخبة التي صنعتها الدولة الوطنية ورعتها وسمّنتها، حتى وصلت إلى إنكار الدولة، ونعتقد أنها لم تعترف بوجود شعب أبدا رغم أنها كتبت له كراسات ثورية.

يمكنها في انتظار عودة الانتداب أو الحماية أن تبيع للشعب الطيب الغبي فيروز "بي راح.. راح العسكر بي علاّ بي عمّر حارب وانتصر في عنجر"، ولن تنتبه إلى أن أجيال لبنان وتونس ومصر وفلسطين وسوريا والجزائر غنت دوما مع بشارة الخوري الهوى والشباب والأمل المنشود.. ضاعت جميعها من يدي.

--------------
وقع تغيير العنوان الأصلي للمقال
محرر موقع بوابتي


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

التبعية، فرنسا، الإحتلال، النخب، التحرر، الإستقلال،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 11-08-2020   الموقع الأصلي للمقال المنشور اعلاه المصدر: عربي 21

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
سامر أبو رمان ، إياد محمود حسين ، عراق المطيري، سيد السباعي، أشرف إبراهيم حجاج، محمد شمام ، سامح لطف الله، ماهر عدنان قنديل، تونسي، فوزي مسعود ، أ.د. مصطفى رجب، أحمد الحباسي، سفيان عبد الكافي، د. خالد الطراولي ، سلام الشماع، رحاب اسعد بيوض التميمي، محمد أحمد عزوز، مصطفي زهران، د - محمد بنيعيش، محمد الياسين، د - صالح المازقي، وائل بنجدو، أبو سمية، مراد قميزة، د - الضاوي خوالدية، أحمد بن عبد المحسن العساف ، صلاح المختار، صالح النعامي ، محمد الطرابلسي، د - شاكر الحوكي ، منجي باكير، خبَّاب بن مروان الحمد، الهادي المثلوثي، د - المنجي الكعبي، د. طارق عبد الحليم، يحيي البوليني، كريم فارق، عمر غازي، د. كاظم عبد الحسين عباس ، د. عبد الآله المالكي، نادية سعد، أحمد النعيمي، د. أحمد بشير، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، رضا الدبّابي، محمود طرشوبي، د- هاني ابوالفتوح، د- محمود علي عريقات، مجدى داود، فتحي العابد، محمد عمر غرس الله، رشيد السيد أحمد، د. عادل محمد عايش الأسطل، د - مصطفى فهمي، ضحى عبد الرحمن، محمد العيادي، العادل السمعلي، حسن الطرابلسي، رافع القارصي، عبد الله زيدان، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، صفاء العربي، جاسم الرصيف، الناصر الرقيق، سعود السبعاني، أحمد بوادي، محرر "بوابتي"، فهمي شراب، صباح الموسوي ، محمد يحي، ياسين أحمد، الهيثم زعفان، علي الكاش، محمد اسعد بيوض التميمي، حسن عثمان، عبد الرزاق قيراط ، د.محمد فتحي عبد العال، إيمى الأشقر، د - محمد بن موسى الشريف ، د. أحمد محمد سليمان، سلوى المغربي، يزيد بن الحسين، د. صلاح عودة الله ، خالد الجاف ، رمضان حينوني، محمود سلطان، حسني إبراهيم عبد العظيم، محمود فاروق سيد شعبان، د - عادل رضا، طلال قسومي، إسراء أبو رمان، د. مصطفى يوسف اللداوي، صفاء العراقي، د- محمد رحال، عزيز العرباوي، أحمد ملحم، علي عبد العال، عبد الله الفقير، د. ضرغام عبد الله الدباغ، د- جابر قميحة، فتحي الزغل، حاتم الصولي، فتحـي قاره بيبـان، سليمان أحمد أبو ستة، كريم السليتي، رافد العزاوي، مصطفى منيغ، حميدة الطيلوش، صلاح الحريري، عبد الغني مزوز، عواطف منصور، أنس الشابي، عمار غيلوفي، المولدي الفرجاني،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضات من طرفه أومن طرف "بوابتي"

كل من له ملاحظة حول مقالة, بإمكانه الإتصال بنا, ونحن ندرس كل الأراء