البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبمقالات رأي وبحوثالاتصال بنا
 
 
   
  الأكثر قراءة   المقالات الأقدم    
 
 
 
 
تصفح باقي الإدراجات
مقالات متعلقة بالكلمة : تونس

توأمة مدن القتل والدمار العربية البائسة

كاتب المقال د. مثنى عبدالله - باريس    من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
 المشاهدات: 3624


 يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط


شاع في العصر الحديث مصطلح توأمة المدن. وهو اتفاق تعاون بين مدينتين أو أكثر من بلدان مختلفة، هدفه تبادل الخبرات في مجال التنمية والتعاون العمراني وتعزيز الأمن والسلم الأهلي، وخلق صلات ترابط ثقافي ومعرفي بين مجتمعات هذه المدن.

وقد ولدت هذه الفكرة بعد الحرب العالمية الأولى، وأطلق عليها مصطلح الدبلوماسية المواطنة، تعبيرا عن نزع الصفة السياسية في التحرك الإنساني نحو الآخر، بهدف مد يد الصداقة والتعاون الحر، الخالي من أي أهداف وأغراض تقع ضمن أجندات حكومية. وقد نشأت علاقات توأمة بين مدن الجنوب الفرنسي والشمال البريطاني عام 1918 بإطار رومانسي، يحفز على إشاعة السلام بين المدن الأوروبية بعد فترة الحروب الطاحنة، ويعطي أملا جديدا لهذا التيار بالانطلاق من المدن الصغيرة إلى المدن الكبرى ثم الدول في ما بينها، ثم امتدت هذه الفكرة وتطورت إلى مدن أخرى في بلدان مختلفة، ولعل الاتحاد الأوروبي بصيغته الحالية، أكبر تعبير عن هذه التوأمة، التي ضمت مجالات واسعة، شملت كل فضاءات التعاون الممكنة.

لكننا في الوطن العربي اليوم نقف عند مشاهد تراجيدية تغمر مدنا عربية كبيرة وصغيرة، وتولد روابط توأمة من نوع آخر تقطر بؤسا وحزنا وأسى غير محدود. ففي المدن الفلسطينية والعراقية والسورية وبقاع عربية أخرى يتربص الموت بالجميع، حيث السموات تمطر فسفورا أبيض وبراميل متفجرة، وتساقط عليهم كل أنواع المقذوفات النارية القديمة والحديثة، بينما يطبق الجوع حصاره عليهم من جميع الجهات، حتى بات الإنسان يقف عاجزا لا حول له ولا قوة، إلى الحد الذي يبقى خياره الوحيد هو محاربة الموت بأكل القطط والديدان والحشائش والادغال. حدث هذا في غزة ومضايا وبلدات سورية أخرى، ويحدث في الفلوجة والكثير من قرى وبلدات الانبار في العراق، حتى بات الرحيل عن هذه المدن، هو النهر الوحيد الذي يجري متدفقا بلا انقطاع رغم قسوته، ويجرهم إلى ظلامية حياة جديدة تنتظرهم في أماكن أخرى غير التي اعتادوها. أنه القاسم المشترك الأعظم الجديد الذي يربط كل مدننا العربية بحبل التوأمة، والذي يقطر دما وذكريات طفولة وأحلاما عجزت كل الأنظمة عن تحقيقها لهم، فباتت الهجرة موتا من نوع أخر ينتظر هذه الجموع الغفيرة، التي أدركت بألا أحد بعد الآن يمكنه أن يعيدهم إلى ما كانوا عليه، فبات خيارهم أن يعيشوا عمرا آخر في أماكن بعيدة عن الأوطان، ويعلمون جيدا أن مدن الرحيل الجديدة لابد أن تفقدهم جزءا كبيرا من ذواتهم. إنه موسم ذوبان الانتماء العربي في دول الهجرة، بعد أن مات الضمير العربي في قمة الهرم السياسي، ولم يعد له هم إلا القتل بهدف الاستمرار في التسلط، حتى لو كان على حساب ملايين البشر، وعلى حساب التغيير الديموغرافي الذي بات يهددنا كأمة، فكلما اقترب العالم المتحضر من إعادة الاندماج الإنساني على أسس جديدة، إلى الحد الذي بات كقرية صغيرة يسهل أتصال الجميع بالجميع، نجد أننا نبتعد مسافات شاسعة عن بعضنا بعضا، ونهجر اوطاننا إلى بلدان أخرى تفرض ثمنها على أجيالنا القادمة اندماجا قسريا، يقابله سلخ قسري لكل قيمنا ومعتقداتنا، مع اتهامات تبقى تلاحقهم إلى زمن غير معلوم، بأنهم عرب ومسلمون.

وإذا أمعنا النظر في رحلات القوارب التي تجوب البحار باتجاه اوروبا، وإذا قرأنا جيدا السلوك الأوروبي والقوانين الجديدة التي يشرعونها ضدنا، وقارنا كل ذلك باستمرار الهجرة، رغم كل هذه الظروف، يصبح لدينا يقين تام بأن المواطن العربي وصل إلى حد الموت وهو حي، وهي حالة شعورية قاسية جدا لأنها تعني المعاناة المستمرة، فالموت ليس بالضرورة توقف الأجهزة الحيوية وحسب، بل في كثير من الأحيان يصبح مرادا في ظل انحطاط الاوضاع الإنسانية، ووصول الألم إلى درجة الحرقة غير القابلة للتفسير من قبل الآخرين، بينما هم وحيدون ومنسيون إلى الأبد.

ففي أعماق المدن العربية، التي أغلبها كانت يوما ما حواضر علم وثقافة وفكر نير، يسحق آلاف من البشر سحقا ظالما وبلا رحمة تحت آلاف الأطنان من القذائف، كي يتحولوا إلى وقود يدير عجلة المصالح السياسية لهذا الطرف. إنهم جميعا باتوا غرباء في أوطانهم ومستلبين ومنزوعي الهوية، وكل ما يلقونه من قسوة وحشية يجري بصمت تام أسواره عالية جدا وعصية على الاختراق.

الساسة نوعان، بعضهم يخلقون الأماكن ويعيدون تأهيل الإنسان، ويتركون بصماتهم على كل شيء بعقولهم وقلوبهم النيرة المشتعلة بهموم الأوطان والإنسان، والبعض الآخر مشغولون بهموم الكراسي والمعارك السياسية التي تتيح لهم جمع أوراق الضغط والكسب غير الحلال، ومع أنهم سيمضون مثل الحشرات يوما ما، لكنهم سيجعلوننا ندفع ثمن إزاحتهم أجيالا، وسيتركون آثارا مدمرة على الإنسان والأوطان، لانهم ليست لديهم معرفة البحث في المكان المناسب عن الحل المناسب.

أنظروا إلى الحلول التي يصنعونها في العراق، خنادق حول كركوك ومحافظات الشمال وكربلاء ثم في العاصمة بغداد، بحجة حفظ المناطق من الاختراق، وكأنه لم يبق من الخطط الامنية المعروفة في العالم غير العودة إلى عصور الخنادق، بينما ملايين البشر يسكنون في الخيم دون ماء وطعام. وفي سوريا تقطع أوصال المدن ويفرض الحصار عليها كي يستسلم الناس، في سبيل الحصول على كسرة خبز أو شربة ماء. وعلى حدود غزة مع مصر يجري العمل حثيثا على تفجير كل الأنفاق، التي ينقل من خلالها الغذاء والدواء إلى شعبنا العربي الفلسطيني، كي تكسر كرامته ويلين في مقاومته. وفي الأردن ولبنان يفرض على اللاجئين السوريين حصار أمني، وكأنهم ليسوا في وطنهم الثاني، كما يفترض، ولا يسمح لهم بمزاولة العمل في ظل ظروف معيشية مزرية. وفي تونس والمغرب يتظاهر الناس من الجوع والبطالة وامتهان الكرامات. ومع كل هذا الكم الهائل من البؤس تستمر القراءات الخاطئة للأوضاع العربية، ويتم تحميل المواطنين في هذه الاقطار نتائجها الكارثية السيئة، بدون أن يعتبر الحكام أنفسهم مخطئين، مما يسمح للخطأ بأن يتضاعف ويتغول إلى ما لانهاية.

إنها دعوة تراجيدية للبحث عن توأمة مخيمات أهلنا الفلسطينيين الأزلية والمنتشرة في كل مكان على الارض العربية، مع مخيمات اللاجئين العراقيين والسوريين الحداثية، كي يبحثوا معا عن افضل طرق الحصول على كسرة خبز وشربة ماء نظيف، وكيف يتقون برد الشتاء وحر الصيف، فالمأساة طويلة ومستمرة، ولاوجود لأفق حل قريب لهم.

كما أننا بحاجة إلى أن نتعلم من أهلنا في فلسطين وسوريا والعراق، كيف جمعوا أشلاء اطفالهم في ظل قصف النيران الصديقة والمعادية، وكيف دفنوا فلذات أكبادهم في حدائق بيوتهم وأرصفة شوارعهم، بعد أن تعذر عليهم الذهاب بهم إلى المدافن. وكيف جازفوا بركوب البحر والسير آلاف الكيلومترات عبر اوروبا، كي يصلوا إلى بلاد باتت تتهمهم بالتحرش الجنسي، وانتهاك حرياتهم وتقاليد بلدانهم وقيمهم الحضارية.


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

التعاون العربي، تؤمة المدن، المدن العربية، الحضر، الحضارة، التسيب،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 9-02-2016  

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
رضا الدبّابي، صلاح المختار، محرر "بوابتي"، سامح لطف الله، د - شاكر الحوكي ، حسن عثمان، سعود السبعاني، مصطفي زهران، عراق المطيري، أحمد بوادي، نادية سعد، فتحـي قاره بيبـان، طلال قسومي، حاتم الصولي، سامر أبو رمان ، حميدة الطيلوش، الهادي المثلوثي، خالد الجاف ، رمضان حينوني، إياد محمود حسين ، صالح النعامي ، د. مصطفى يوسف اللداوي، محمد الطرابلسي، فهمي شراب، محمود طرشوبي، د.محمد فتحي عبد العال، د. صلاح عودة الله ، أحمد النعيمي، جاسم الرصيف، حسن الطرابلسي، كريم السليتي، د - محمد بنيعيش، مصطفى منيغ، الهيثم زعفان، أنس الشابي، د. عبد الآله المالكي، محمد يحي، محمد عمر غرس الله، رافع القارصي، عبد الله زيدان، محمود فاروق سيد شعبان، صباح الموسوي ، منجي باكير، أ.د. مصطفى رجب، د - الضاوي خوالدية، سفيان عبد الكافي، علي الكاش، رحاب اسعد بيوض التميمي، د. عادل محمد عايش الأسطل، عبد الرزاق قيراط ، محمد الياسين، محمود سلطان، الناصر الرقيق، إيمى الأشقر، خبَّاب بن مروان الحمد، رشيد السيد أحمد، يحيي البوليني، سلوى المغربي، يزيد بن الحسين، سليمان أحمد أبو ستة، عمر غازي، أبو سمية، فتحي العابد، أحمد بن عبد المحسن العساف ، صفاء العربي، العادل السمعلي، د- محمود علي عريقات، د- محمد رحال، د - محمد بن موسى الشريف ، أحمد ملحم، سيد السباعي، د - صالح المازقي، محمد شمام ، محمد العيادي، أحمد الحباسي، د - المنجي الكعبي، رافد العزاوي، د. أحمد محمد سليمان، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، عواطف منصور، أشرف إبراهيم حجاج، ياسين أحمد، محمد أحمد عزوز، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، صفاء العراقي، د- هاني ابوالفتوح، وائل بنجدو، المولدي الفرجاني، عزيز العرباوي، د- جابر قميحة، د. طارق عبد الحليم، ماهر عدنان قنديل، تونسي، فوزي مسعود ، ضحى عبد الرحمن، صلاح الحريري، سلام الشماع، عمار غيلوفي، عبد الغني مزوز، د. خالد الطراولي ، عبد الله الفقير، فتحي الزغل، محمد اسعد بيوض التميمي، إسراء أبو رمان، د - عادل رضا، حسني إبراهيم عبد العظيم، كريم فارق، مجدى داود، د. ضرغام عبد الله الدباغ، د. أحمد بشير، د. كاظم عبد الحسين عباس ، مراد قميزة، علي عبد العال، د - مصطفى فهمي،
أحدث الردود
مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


It is important that issues are addressed in a clear and open manner, because it is necessary to understand the necessary information and to properly ...>>

وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضات من طرفه أومن طرف "بوابتي"

كل من له ملاحظة حول مقالة, بإمكانه الإتصال بنا, ونحن ندرس كل الأراء