البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبمقالات رأي وبحوثالاتصال بنا
 
 
   
  الأكثر قراءة   المقالات الأقدم    
 
 
 
 
تصفح باقي الإدراجات
مقالات متعلقة بالكلمة : تونس

منوال غزة أو غزة المنوال

كاتب المقال نور الدين العلوي - تونس   
 المشاهدات: 217



نحوِّل غزة إلى منوال تفكير وسلوك في مجالات السياسة والفكر والاقتصاد وعلم المستقبليات، لنخرج من حرب غزة بمنوال مستقبلي لأمة عانت من اضطراب المناويل التجريبية طيلة قرنين. لنعد اكتشاف العرب بعد طوفان الأقصى، هناك شعور بالعذاب المرير عبّر عنه كل متعاطف مع غزة وقد اكتشف عجزه عن الإسناد الفعلي، فانتهى يؤثم قلبه ويبكي مغدورا ومقهورا، ولذلك فإن السؤال الذي وجب ألا يتأخر أكثر مما تأخر. لماذا عجزنا دون غزة وهي تدفع الأثمان الباهظة وحدها (وطبعا بيننا شامتون في غزة ومنوالها)؟ ثم يعقبه السؤال المنهجي الكوني: ما العمل؟

تيه القرن العشرين العربي

هل كان القرن العشرين العربي كله تيه في الصحراء؟ هذا سؤال في المراجعات الضرورية؛ لقد حصلت مكاسب كثيرة مقارنة بقرن هجوم الاحتلال الغربي على كل الرقعة العربية. لقد بنى العرب هياكل سياسية سمّوها دولا وبنوا مدارس وجامعات وتعلمت الشعوب أكثر من "فك الحرف"، فصارت لها نخب فكرية وأدباء كبار وعلماء أفذاذ، فكيف يمكن تجاهل كل هذه المكاسب؟

نعم إنها مكاسب هامة لا يستهان بها لكنها بغير غطاء سياسي هذه الكيانات السياسة ولدت هشة وعارية وأشد فقرا من أطفال غزة الآن. لقد اختلفت هذه الدول مع شعوبها في مفهوم التقدم فمنَّت الدول بالقليل من التقدم المادي على شعوبها وحرمتها بقصد وتصميم من الحرية، وهي قمة التقدم ووسيلته ومفاتيح القوة فيه. في غياب الشعب الحر صاحب السيادة بمعناها القانوني وبمعناها السياسي وبعمقها الاقتصادي، فإن كل المكاسب المذكورة (كفخر للدول أو بالأحرى للأنظمة) هي مكاسب غير ذات قيمة لأنها لم تخلق المواطن الحر، بل خلقت المواطن السائمة المشغول طيلة يومه بتدبير قُوْته وهو يتدبره بحيل ليست كلها راقية بل فيها من الخسة ما يليق بالحيوان، وذلك بعلم الأنظمة وبتحفيز منها دفعا للسائمة إلى درك الحضيض الأسفل.

لقد وقعت أحداث كثيرة كشفت هذا المواطن السائمة، فكلما تعرض جزء من الشعوب العربية إلى مأساة عجزت بقية الشعوب عن نصرته ومكثت تتفرج في دماره، والعراق هو النموذج الأوضح قبل غزة. أما غزة فأنهت وهم الدول العربية ووهم المواطن العربي، بل وضّحت لكل ذي نظر أن لا مواطن وإنما كتل سائمة مشغولة بتدبر غذائها حتى في بلدان الوفرة النفطية. هنا نتحدث عن التيه الطويل، ومن هنا وجب النظر إلى منوال غزة التي لم ينشغل بشرها القليل بتدبر عيش رخيص على طريقة جماعة أوسلو، وهي طريقة كل نظام عربي وكل سائمة عربية تزعم السيادة والاستقلال.. من هنا يولد المنوال الغزاوي؛ الحرية أولا ثم تكون دول ويكون مواطنون.

كيف نحول غزة إلى نموذج وقدوة أو منوال؟

سنختلف طويلا في تثمين المكاسب المذكورة أعلاه، فمن العرب ما يرى نفسه قد نجا من شرور العالم لمجرد أنه ملك جواز سفر. ولذلك فإن خطابات كثيرة راجت حول سبل الدعم لغزة وقد راجت قبل ذلك أيام الحروب المتتالية على العراق، وهي أن المكاسب الموجودة جديرة بالحفاظ عليها ومنع الناس من التقليل من أهميتها.

لذلك مثلا فإن المساس بأي سفارة أجنبية في دولة عربية ولو بالاحتجاج السلمي أمامها أو رفع شعارات معادية لها (لا أحد تحدث عن حرق سفارات أو إغلاقها بالقوة) يصير جريمة، وقد بلغ بصلف السفارات أن أغلقت الطرق حول مقارها وحلوت اتجاهات السير كي لا يقترب منها الاحتجاج الشعبي، فكشفت أن الدول لا تملك حتى السيادة على طرقات المدن التي تحكمها في الواقع السفارات الأجنبية.

في المقابل فإن الصور الواردة من غزة تكشف أن الحرب هناك هي نفس الحرب في كل دولة عربية، والضحايا ليسوا فقط في غزة وإن اختلف شكل الموت. وإذ تكشف غزة أن العربي خارجها ميت كأنه حي ويتدبر خبزا، فإن العمل السياسي بعد غزة يتخذ منحى مختلفا بالقوة لا بالرغبة. كيف ذلك؟

توجد نخب متعلمة وفيها قوم كثير يمارسون السياسة في أحزاب أو نقابات أو جمعيات مهنية ولديهم رؤى سياسية ضمن ما سمحت به دولهم، وقد وصلوا جميعهم بعد حرب غزة إلى أنهم ممنوعون من الدفاع عن حياتهم عندما يتعلق الأمر بقضايا إنسانية وقومية مثل القضية الفلسطينية. لذلك يصير كل عمل سياسي لا يستند إلى حرب تحرير محلية هو عمل غير ذي نتيجة في المدى القريب والبعيد. من هؤلاء كثير يهز كتفيه استهانة بمسألة الحرية والاستقلال والسيادة، وهي فئة مرفهة لا يعول عليها في أمر جدي.

يصبح المعوّل عليهم هم الفئات التي آمنت في عملها بمسألة الحرية ودفعت لها أثمانا (أقل من غزة دوما)، ولكنها دفعت عن علم بما يجب وما يكون. وقد زادها الانقلاب على الديمقراطية بعد الربيع العربي يقينا بأن تلك الانقلابات كانت مقدمات للحرب على غزة وعلى كل أرض تشبه غزة، وعلى كل مواطن عربي يفكر في حريته وفي استقلال دولته وسيادتها على قرارها.

بمعنى واضح لا توجد إمكانية بناء ديمقراطية دخل كيان محتل ولو كان هذا الاحتلال يتخفى حول قوانين الاستثمار وخلق الثروة، وكل تلك اللغة الفخمة التي تبرر بها دول مثل تونس والمغرب ومصر تخليها عن سيادتها لصالح الاستثمارات الغربية التي رهنت إرادة الدول (أعني الأنظمة) وحولتها إلى ممسحة عتبات أمام رأس المال الجوال المخترق للسيادة.

البدء من إعادة تعريف مسألة السيادة وفسح مجال أكبر لكل ما يتعلق بترسيخ حرية المواطن. سيكون هناك عناء كبير في إجبار البعض على استيعاب فكرة تحمل الفقر من أجل الحرية على طريقة غزة (وإن كنا نظن أن لن تكون هناك حرب مباشرة فهذه الحرب شرف لغزة وحدها)، لكن ما لم نفكر مثل غزة ونتحمل كلفة الفكرة وننتظر بصبر نتيجتها فالمصير مكشوف لكل ذي نظر، إنها الحالة المصرية الراهنة تحت حكم السيسي وغير بعيدة منها تونس تحت حكم قيس سعيد (حتى لا نتهم بالمزايدة على مصر).

المواطن العربي في كل الأقطار يبيت شبعانا ولديه فراش دافئ ووسائل رفاه جيدة (بدرجات طبعا)، لكنه مواطن بائس وحزين لأنه مواطن بلا حرية، وإذا لم يستوعب حرب غزة بصفتها طريق تحرر وطني أي منوال سياسي كامل يبدأ بترسيخ الحرية ثم يبني عليها؛ فإنه سيظل يأكل وينام وتمرّ غزة بذاكرته فيقول "أنا ما دام جسمي سالما مالي ومال الآخرين".

لقد وضعت غزة الأسس؛ إما أن يعيش المواطن العربي مثلما يعيش المصري/ التونسي الآن تحت حكم السيسي/ سعيد، أو أن يحتمل حرب تحرير تفتح له طريق سيادته على مقدراته وتمنع الغرب خاصة من الدوس على رقبته كل صباح بدعوى أن الغرب يضمن له عشائه ليلا، فيعيش ويحكم ويسود.

هنا قالت غزة ما كان يجب أن يقال منذ الخمسينات ولكنه تأجل طويلا حتى لم يعد قابلا للتأجيل. لا مكاسب سياسية خارج الحرية، فإن لم تكن تفكر مثل غزة فلا تزعم حديث المستقبل. غزة منوال حرية وسيادة بثمن مكلف من الفقر والجوع، وهذا هو الطريق الوحيد.


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

غزة، فلسطين، إسرائيل، طوفان الأقصى،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 21-12-2023   الموقع الأصلي للمقال المنشور اعلاه المصدر: عربي 21

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
حسن الطرابلسي، د - صالح المازقي، أحمد النعيمي، سلام الشماع، د - شاكر الحوكي ، صلاح المختار، فوزي مسعود ، رمضان حينوني، د. عبد الآله المالكي، محمد شمام ، جاسم الرصيف، إيمى الأشقر، فتحـي قاره بيبـان، رحاب اسعد بيوض التميمي، فتحي الزغل، محمد يحي، يزيد بن الحسين، محمود طرشوبي، مراد قميزة، العادل السمعلي، إسراء أبو رمان، صلاح الحريري، د - محمد بن موسى الشريف ، خبَّاب بن مروان الحمد، د - مصطفى فهمي، خالد الجاف ، عبد الغني مزوز، علي عبد العال، مصطفي زهران، رضا الدبّابي، سامر أبو رمان ، عبد الرزاق قيراط ، منجي باكير، حاتم الصولي، نادية سعد، مصطفى منيغ، كريم فارق، ضحى عبد الرحمن، الهادي المثلوثي، د. خالد الطراولي ، وائل بنجدو، د. عادل محمد عايش الأسطل، أحمد بن عبد المحسن العساف ، صفاء العراقي، علي الكاش، د - المنجي الكعبي، تونسي، حميدة الطيلوش، أحمد بوادي، عمر غازي، د. ضرغام عبد الله الدباغ، محمد الياسين، فهمي شراب، محمد الطرابلسي، إياد محمود حسين ، د. مصطفى يوسف اللداوي، محمد عمر غرس الله، مجدى داود، د- محمد رحال، أنس الشابي، يحيي البوليني، محمد أحمد عزوز، رشيد السيد أحمد، طلال قسومي، الهيثم زعفان، سامح لطف الله، كريم السليتي، عبد الله زيدان، د. كاظم عبد الحسين عباس ، سليمان أحمد أبو ستة، د. أحمد محمد سليمان، عبد الله الفقير، محمد اسعد بيوض التميمي، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، المولدي الفرجاني، د - الضاوي خوالدية، عزيز العرباوي، د- هاني ابوالفتوح، حسن عثمان، د.محمد فتحي عبد العال، سلوى المغربي، ماهر عدنان قنديل، أحمد الحباسي، رافع القارصي، عمار غيلوفي، عواطف منصور، ياسين أحمد، د. أحمد بشير، عراق المطيري، محمود فاروق سيد شعبان، أ.د. مصطفى رجب، الناصر الرقيق، د - محمد بنيعيش، صالح النعامي ، د- جابر قميحة، سفيان عبد الكافي، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، أشرف إبراهيم حجاج، سيد السباعي، د- محمود علي عريقات، أبو سمية، صفاء العربي، صباح الموسوي ، محمد العيادي، محرر "بوابتي"، حسني إبراهيم عبد العظيم، د. طارق عبد الحليم، أحمد ملحم، د. صلاح عودة الله ، رافد العزاوي، سعود السبعاني، د - عادل رضا، محمود سلطان، فتحي العابد،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضات من طرفه أومن طرف "بوابتي"

كل من له ملاحظة حول مقالة, بإمكانه الإتصال بنا, ونحن ندرس كل الأراء