د. أحمد إبراهيم خضر - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8255
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الأحداث التي تجري حولَنا اليوم ستُصبِح غدًا تاريخًا لنا وللأجيال التي تَعقُبنا، وقد نكتَشِف في هذا الغد أن أعداءنا قد خلَطُوا هذه الأحداث بدَسائِس من الباطل توهَّموها أو ابتَدَعوها، وبزَخارِف من الرِّوايات لفَّقُوها ووضَعُوها، ثم كتَبَها لنا رواتها كما سَمِعُوها، ولم يُلاحِظوا عند روايَتِهم لهذه الأحداث أسباب الوقائع والأحوال ولم يُراعوها، ولم يَرفُضوا ما جاء بها، ولم يُدَقِّقوا فيها، فالتَّحقِيق - كما يقول ابن خلدون - قليل، والتَّنقِيح في الغالب كليل (ضعيف)، والغَلَط والوَهْم نَسِيب للأخبار وخليل، ومرعى الجهل بين الناس وَخِيم وَبِيل، لكنَّ الحقَّ لا يُقاوَم سُلطانُه، والباطل يَقذِف بشهاب النظر شيطانُه، والناقل إنما هو يُملى وينقل، والبصيرة تنقد الصحيح، والعلم يجلو لها صفحات الصواب ويصقل".
هذه الكلمات من "مقدمة ابن خلدون"، نَنساها دائمًا عندما يَروِي لنا الغرب أحداثًا ينسبها دائمًا لما يسميهم بـ"إسلاميِّين، إرهابيين، متطرِّفين، متعصِّبين، مُتَشدِّدين، راديكاليين... إلخ".
من هذه الأحداث ما تَروِيه المخابرات البريطانية من أنَّ مجموعة إسلامية يُسَمُّونها "إرهابيَّة"، تَضُمُّ عددًا ليس بالقليل من الأطبَّاء - هي المسؤولة عمَّا عرفت بتَفجِيرات 7/ 7، أو تَفجِيرات لندن - جلاسكو، وهذه الأحداث يَروِيها الغربيون عادَةً "منسقة، ويُحافِظون على نَقْلِها وهمًا أو صدقًا، وإذا كانت حقيقة فهم لا يتعرَّضون لبداياتها وأصولها، ولا يَذكُرون السبب الذي من أجله قام أصحابها بهذا العمل، ولا يقفون أبدًا عن علَّة غايَة هذا العمل، فيأتي كلُّ مقلِّد وبَلِيد الطبع والعقل أو مُتبَلِّد، فيُصدِّق ما يُقال، فيكره الجهاد والجهاديِّين، ويصدق دعاوى الغرب فيما يُسمَّى بـ"الإرهاب والإرهابيين"، ويفقد الثقة في الطب والأطبَّاء الإسلاميين - حسب لغة ابن خلدون.
وإذا كانت الحقيقة غائبة وراء رِوايات المخابرات البريطانية والأمريكية عن هذه الأحداث التي أُلصِقت بالأطبَّاء، فإنها في الواقع قد دفعت الدارسين والباحثين الغربيين - الذين اعتَقَدوا أنها حقيقة لا لبس فيها - إلى بذْل المَزِيد من الجهد في البحث والدِّراسة لهذه الظاهرة الجديدة التي قلبَت الموازين لديهم.
فصورة الجهاديِّ النَّمَطِيَّة - كما يصفها "ستيفن شوارتز" - هي هذا الشاب "الجاهل، غير المتعلِّم، الفقير العاطِل، المحروم، الذي يستَجِيب بسرعة لقيادة تَنظِيم مُتَعصِّب ماكِر"، وهذه الصورة جسَّدَتْها السينما المصرية في فيلم عُرِض في عام 1994 تحت اسم "الإرهابي" - والكلام هنا لـ"ستيفن شوارتز" - فجاء هؤلاء الأطبَّاء فأربَكُوا التحليلات الغربية، وقلَبُوها رأسًا على عقب".
أمَّا أهميَّة هذه الدراسات والأبحاث بالنسبة لنا فيَقُول عنها الدكتور "محمد محمد حسين" في معرض بيانه لتقصيرنا وإهمالنا لهذه الدِّراسات الغربية التي هي الأساس الذي يوجِّه سياسة الغرب ضدَّنا: "إن الغرب يبني سياسته، ويُدبِّر مكايِدَه للإسلام والمسلمين، على أساس دراسات علميَّة تقوم على استِقصاء ما يكتبه المسلمون، فلماذا لا نبني سياستنا في مقاومة مكايده، وإحباط خططه، والسبق إلى مبادأته، على أساس علمي مدروس، يقوم على استقصاء ما كتبه ساسته وعلماؤه عن الشرق والعالم الإسلامي؟! ولماذا لا نتعاوَن على نقل هذه الدراسات - وهي كثيرة ضخمه لا تنهض بها الجهود الفردية - إلى العربية، بدلاً من الاشتِغال بنقْل السَّخِيف التافِه والمدمِّر الهدَّام من القصص والآداب؟!".
يقول البريطانيون: "صحيح أنه ليس كلُّ الأطبَّاء يشتَرِكون في العمليَّات الجهاديَّة، لكن المشكلة أن وجودهم في الحركات الجهاديَّة قد زاد عمَّا هو مُتَوقَّع، وهذا يَعنِي: أن على الغرب أن يتوقَّع أمثلة عديدة أخرى مُشابِهة أو أكثر من حالة الأطبَّاء الإسلاميين يُمكِن أن تظهر في المستقبل".
ويقول الأمريكيون: "إن نشاط الأطبَّاء من ذوي الميول الإسلامية الذين يُعطُون تفسيرات مُتطَرِّفة للإسلام قد توسَّع، وأن الحكومة الفيدرالية قد اتهمت أخصائيًّا في علم الأورام وثلاثة آخَرين في عام 2003 بمخالفة القواعد الموضوعة لنقل الأموال إلى خارج الولايات المتَّحدة، وقاموا بتمويل عمليَّات "إرهابية" في العراق، وقد حكمت المحكمة عليهم بالسجن لمدَّة اثنتين وعشرين سنة".
ويقول الأمريكيون أيضًا: "الأطبَّاء الإسلاميون في "توليدو" بولاية "أوهايو" الأمريكية هم الذين يتولَّون إدارة المساجد بها، يقوم هؤلاء الأطبَّاء بإعادة قراءة المؤلفات الراديكالية لـ"المودودي" و"سيد قطب"، ونجحوا في عملية تصويت داخل أحد المساجد في عزل القيادات المعتدلة من إدارتها، وقال أحد أعضاء المسجد السابقين: "إنه ليدهشني أنَّ الذي قام بهذا العمل هم الأطبَّاء".
ومن الواضح أن غالبية الأطبَّاء في المنطقة يتبنون "إيديولوجية متطرفة"، وحينما اضطلع الأطبَّاء بإدارة المسجد أنزلوا العَلَم الأمريكي من العقار الذي به المسجد، على الرغم من اعتِراض بعض المُهتَدِين الجُدُد إلى الإسلام، لقد أصبحت الإرشادات الدينية في المسجد مُتَّسِمة بالتطرُّف؛ حتى إن أحد المدرِّسين الدينيين في المسجد طالَبَ بإعدام الجنود الأمريكيين في العِراق، أمَّا هؤلاء الذين انتَقَدوا النهج المتطرِّف للأطبَّاء، فقد نُعِتُوا بأنهم جَواسِيس غير مُلتَزِمين إسلاميًّا، يُساعِدون السلطات الأمريكية على تدمير الإسلام.
وفي فبراير 2006 ألقت السلطات الأمريكية القبْض على خليَّة تتكوَّن من ثلاثة إسلاميين بتهمة الإرهاب، وهناك في "كاليفورنيا" في "مسجد أبي بكر" أكبر المساجد في "سان دياجو" يقوم أحد أطبَّاء الأسنان البارِزِين بإعطاء محاضرات دينية تنحو نحو التطرُّف، كما أنَّه يُقَدِّم تَخفِيضات علاجية لِمَرضَاه من طُلاَّبه المهاجرين غير القادرين".
(انظر مفهوم الإسلام المعتدل والإسلام المتطرِّف عند الغرب في مقالتنا: "الحداثة مخرج اليهود إلى ما يسمى بالإسلام المعتدل"، موقع الألوكة).
اللافت للنظر في دراسات الباحثين الغربيين عمَّا أسموه بظاهرة "تطرُّف الأطبَّاء" هو أن أحدهم - وهو "دي بيي شلوسل" - خلط في مقالة له بعنوان: "الأطبَّاء الإسلاميون الإرهابيون ليسوا بمفاجأة"، أسماء العديد من الأطبَّاء الجهاديين بغيرهم من الأطبَّاء، سواء أكانوا مسلمين أم نصارى، روافض أم دروزًا أم علويين، وسواء كانوا فدائيين أم قوميين، أم رؤساء دول أم أعضاء حكومات، وغيرهم، جمع "سلوشل" بين الطبيب والجرَّاح المصري "أيمن الظواهري" ووالده "محمد ربيع الظواهري" أستاذ علم الأدوية بكلية الطب بجامعة عين شمس، الذي وصَفَه "شلوسل" بأنَّه أحد الأعضاء المتحمِّسين لجماعة الإخوان المصرية، وكذلك طبيب الأطفال الفلسطيني "عبدالعزيز الرنتيسي"، والجرَّاح الفلسطيني "محمد الزهار" أحد قادة "حماس" والمُحاضِر بالجامعة الإسلامية بغزة، وكذلك أشهر الأطبَّاء المسلمين في كاليفورنيا "ماهر حتحوت" طبيب أمراض القلب المُتقاعِد، وشقيقه "حسين" المتخصِّص في أمراض النساء والتوليد، والرئيس السوري طبيب العيون "بشَّار الأسد"، كلُّ هؤلاء جمع بينهم وبين طبيب الأطفال "جورج حبش"، والطبيب "وديع حداد" مساعد "حبش"، وطبيب الطوارئ "رفيق صابر"، الذي اتَّهمَه بعلاج وتدريب الجهاديين، والطبيبة ليلى "المريوطي" و"رياض عبدالكريم"، المتَّهمان بتمويل الجماعات الإسلامية.
ذكر "شلوسل" أسماء العديد من الأطبَّاء الآخَرين في العَدِيد من التخَصُّصات الطبيَّة، وذكر كذلك التُّهَم الموجَّهة إليهم، والكثير من هذه التُّهَم للعديد من هؤلاء الأطبَّاء ليست مرتبِطة بالأعمال الجهادية، ولكنه وضعهم جميعًا تحت مظلَّة "الإرهاب"، فمن هؤلاء الأطبَّاء مَن قتَل زوجته، ومنهم مَن قتَل مريضَه أو سرق أعضاءه، ومَن اتُّهِم في جرائم احتِيال، وهذه الجرائم لا تقتَصِر على الأطبَّاء، وقد يقوم بها الأطبَّاء وغير الأطبَّاء، لكن "شلوسل" أراد أن يصل من هذا الحصر إلى اتِّهام يُوَجِّهه إلى الأطبَّاء المسلمين بأنهم لا يحتَرِمون النفس الإنسانية للآخَرين.
هاجَم "شلوسل" بشدَّة الميثاق الذي أصدرَتْه الهيئة الطبية الإسلامية لأمريكا الشمالية IMAN في عام 1977، وأعطى "شلوسل" تفسيرات مُضَلِّلة للآيات القرآنية التي استَنَد إليها هذا الميثاق؛ على أساس أنها تدعو للقتل، وعدم مُداوَاة المرضى من غير المسلمين، بل تدعو لقَتْلِهم تبريرًا للجِهاد، كما ادَّعى بأن هذا الميثاق مسروق من التوراة ثم التلمود، وأن هذا الميثاق ليس للأطبَّاء اليهود.
ويمكن إجمال أهمِّ ما توصَّلت إليه دراسات الباحِثين الغربيين لما يسمونه بـ"ظاهرة تطرُّف الأطبَّاء" في الآتي:
أولاً: يرى الباحثون الغربيون أنه لا يُمكِن اعتِبار اشتِراك الأطبَّاء في عمليَّتين جهاديَّتين مجرَّد ظاهرة مُنعَزِلة، وإنما هي ظاهرة ذات أبعاد تحتاج إلى الدراسة والبحث، فقد لاحَظُوا أن العديد من الجماعات الإسلامية، حتى تلك المعروفة بأنها جماعات سلمية لا جهادية، وتلك الموجودة في بريطانيا، أو مصر، أو باكستان، أو دول الخليج، أو حتى في الولايات المتحدة - تضمُّ بين جنباتها أطبَّاء يعتنقون ما يسمِّيه الغربيون "عقيدة متطرفة" - على حدِّ قولهم.
كما لاحَظُوا أيضًا أن إحدى الجماعات المحظورة في بريطانيا التي أقامت احتفالات ابتهاجًا بعمليات 11 سبتمبر، تضمُّ طلبة يدرسون الطب، ولاحَظُوا - ثالثًا - أنَّ الجماعات الإسلامية التي لم تكن تخشاها السلطات الغربية عادَةً، وكانت تسمح بمنح أعضائها تأشيرات دخول إلى بلادها للقيام بالوعظ الديني بها، كانت هذه الجماعة ترحِّب بانضِمام طلاب الطب إلى صفوفها.
ثانيًا: انتهى "سلوشل" من دراسته التي أشرنا إليها إلى بيان أن الخلفية الاجتماعية والاقتصادية للأطبَّاء الجهاديين قويَّة؛ فهم أثرياء، وناجحون، ومتعلمون، ومن ثَمَّ تسقط الادعاءات التي تفسر جهادهم بأسباب ترجع إلى الفقر وانخفاض المستوى الاجتماعي، ولم يجد "شلوسل" أمامه من تفسير إلا القول بأن الإسلام يسعى إلى التسلط، وأن الجهاد هو وسيلة لتحقيق ذلك.
وانتهى باحثون غربيون آخَرون إلى نتيجة مُشابِهة لهذه النتيجة التي توصَّل إليها "شلوسل" فقالوا: "إنه لا يُمكِن تفسير وإرجاع ما يسمى بـ"تطرُّف" الأطبَّاء في بعض البلاد الإسلامية الفقيرة إلى زيادة أعدادهم، وعدم توافُر وظائف لهم، لكن باحثين آخرين يرفضون هذا التفسير، خاصَّة وهم يجدون أطبَّاء آخَرين في بلاد إسلامية أخرى غنيَّة قد سلكوا نفس هذا السلوك الذي يُسَمُّونه بـ"المتطرِّف".
ورأى هؤلاء الباحثون أيضًا أنه على الرغم من عقلانيَّة التفسير القائل بأن تطرُّف الأطبَّاء هو ردُّ فعلٍ ضدَّ مَظاهِر الحرمان والفساد السائد في مُعظَم الدُّوَل الإسلامية، وردُّ فعلٍ كذلك لإذلال الفلسطينيين والعراقيين على يد إسرائيل والولايات المتَّحدة والغرب الأوربي، فإنه ليس من دليل هناك يؤيِّد هذا الافتراض.
ثالثًا: أنَّ المسلمين الأوائل لم يكونوا يفصِلون بين الإسلام والطب، وهما مُرتَبِطان ببعضهما في الشعور الشعبي للمسلمين، وكثيرًا ما يستَخدِم المسلمون الآيات القرآنية كتَعاوِيذ للشِّفاء من الأمراض، والكتيِّبات التي تحتَوِي على أدعية للشِّفاء من الأمراض تطبع وتُباع من البوسنة إلى أندونيسيا وكذلك في تركيا، وعادة ما تُكتَب سورة الفاتحة أو أسماء الله الحسنى على قِطَع من الورق وتُغمَس في الماء أو ماء الورد أو المسك، ثم تُشرَب من أجل الشفاء من الأمراض، كما وجد الباحثون أيضًا أن كتاب "الطب النبوي"؛ للإمام ابن قيِّم الجوزية هو من أكثر الكتب شيوعًا، كما أنَّه مُتَاح ومُتَرجم بجميع اللغات، ويَتَوهَّم الباحثون الغربيون أن لجوء المسلمين إلى الطب النبوي ما هو إلا وسيلة لتجنُّب إجراء العمليَّات الجراحيَّة التي تَفُوق تكاليفها إمكانيَّاتهم المادية.
رابعًا: تُعتَبَر مهنة الطب في المجتمعات الإسلامية من مِهَنِ الصفوة، ولهذه المهنة ضوابط أخلاقيَّة واجتماعيَّة يُمكِن أن تُؤَثِّر في الآخَرين، وتُحَوِّلهم - بالتالي - ممَّا يسمِّيه الغربيون بـ"الإسلام الروحي"، إلى تبنِّي ما يسمونه بـ"إيديولوجيا متطرِّفة".
كان للشيوخ المحنَّكين في العلاج بالطب الشعبي مصداقية أكبر في المناطق الريفية والحضرية الفقيرة؛ بسبب هذا الارتِباط بين الدين والطب، لكن الكثير من المسلمين اليوم بدؤوا يثقون أكثر في الأطبَّاء من ذوي التوجُّهات الإسلامية، وهذا يعني للغرب أن سلطة الشيوخ المُعالِجين بدأت تضمحلُّ لصالح هؤلاء الأطبَّاء، ولعلَّ هذا هو السبب الذي جعل الدكتور "خالد محمود" أستاذ الديانات المقارنة بجامعة ولاية "سان دياجو" يقول: "إن الصورة التقليدية لاختِيار القادَة المسلمين اليوم لم تعد تعتمد على مجرَّد معرفتهم بالإسلام، وإنما اتَّجهت إلى الاعتِماد على أوضاعهم الاجتماعية كأطبَّاء أو كمهندسين... إلخ.
وقد فهم قادة الحركات الإسلامية حقيقة مكانة الأطبَّاء العالية بين الجماهير، فاستخدموها وسعوا لاستقطابهم".
خامسًا: يُعتَبَر الطبيب في العالم الثالث هو الشخص الوحيد القادِر على تقديم مساعدة حقيقية للناس، ولا يَقتَصِر هذا الأمر على المجتمعات الإسلامية وحدَها؛ ففي فترة الستينيات والسبعينيات أرسل القادة اليساريون في أمريكا اللاتينية الطلاب إلى الاتِّحاد السوفياتي وكوبا لدراسة الطب "آرنستو شي جيفارا"، كان طبيبًا بشريًّا، "فيدل كاسترو" استمرَّ في إعداد طلاب الطب وتدريبهم لكي يخدموا الفقراء مجانًا، كما توسَّع في فكرته عن الاستِفادة من الأطبَّاء، حتى إنه وجه الدعوة إلى جماعة "أمَّة الإسلام" في الولايات المتَّحدة لإرسال الطلاَّب الأمريكيين الأفارقة للتدريب الطبي المجاني في كوبا.
سادسًا: اهتمُّ الباحثون الغربيون بمُحاوَلة الوقوف على أوجُه الاختِلاف بين مدخل الطب الإسلامي ومدخل الطب الغربي، وجد هؤلاء الباحثون أن أخلاقيَّات الطب عند العلماء المسلمين لا تختلف كثيرًا عن مَثِيلتها عند الغربيين، يقول هؤلاء الباحِثُون: "ترجم العلماء المسلمون والأطبَّاء الطب اليوناني، ووقفوا على "قَسَم أبوقراط" وعلى غيره من عناصر الطب اليوناني، في عام 1981 قامت المنظمة الدولية للطب الإسلامي في الكويت بصياغة عقيدة الطبِّ الإسلامي، فأصدرت ميثاقًا للأخلاقيات الطبية الإسلامية يشتَمِل على القَسَم الذي يجب أن يحلفه الطبيب، وهو قسم مطوَّر عن "قسم أبوقراط"، يربط هذه الأخلاقيات بالله، ويحدِّد واجبات الطبيب المسلم وضرورة التزامه بالمعايير الإسلامية عند التعامُل مع مَرضاه، وأن يعيش حياته كطبيب مسلم في السرِّ والعَلَن على السواء، يرتَبِط ميثاق الأخلاقيات الطبية الإسلامية غالبًا بمسألة حرمة الحياة، فهو يَرفُض "القتل الرحيم" على سبيل المثال؛ بمعنى: ألا يُقدِم الطبيب على قتل مريضه، حتى ولو بدافع الرحمة عليه، كما يَرتَبِط هذا الميثاق بالشريعة الإسلامية؛ فقدسيَّة الحياة تَقتَضِي ألاَّ تنزع الحياة من المريض إلا بإذن شرعي من عالم مُتَخصِّص في الشريعة لا يخضع لسلطة طبيَّة، كما يمنع علماء الشريعة الإجهاض إلا في حالة تعرُّض حياة الأم للخطر، ويُجمِع علماء الشريعة على أنَّه يحرم الإجهاض بعد تشكُّل الجنين تمامًا، وبعد أن تُنفَخ الرُّوح فيه، ويسمح هؤلاء العلماء بالإجهاض إذا ظهر حسبما يُقَرِّر طبيب موثوق فيه أن استِمرار الحمل من شأنه أن يَتسبَّب في وفاة الأم؛ على أساس القاعدة العامَّة في الشريعة، وهي: "دفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما"".
كل هذه الدلائل تُثبِت عكس ما ادَّعاه بعض الباحثين الغربيين من عدم احتِرام الميثاق الأخلاقي للأطبَّاء المسلمين للرُّوح الإنسانية.
سابعًا: تابَع الباحثون الغربيون هذه الظاهرة بين الشيعة، فوجدوا: "أن الأطبَّاء منهم في الغرب يلتَزِمون بالدليل الذي وضَعَه لهم إمامهم "السيستاني"، يُجِيز "السيستاني" في هذا الدليل نقْل الأعضاء حتى من الكلاب والخنازير إلى جسم الإنسان، كما يسمح لهم باستخدام الأنسولين حتى لو استُخرِج من الخنازير، كما وسَّع لهم استخدام الهندسة الوراثية حتى لو كانت بغرض جعل الجسم الإنساني أكثر جاذبية، ركَّز "شوارتز" كذلك على ما أسماه بالالتِزام المتطرِّف في إيران، يقول "شوارتز": "إنَّ دور الصفوة المدرَّبة عِلميًّا في الحَثِّ على التطرُّف أمر ظاهر في إيران؛ إن مُعظَم الحركات السياسيَّة وحركات الطلاَّب قبل وبعد ثورة الخميني نشَأَت في كليات الطب والهندسة وكليات التقنية، وبينما يُعتَبَر الأطبَّاء أكثر تأثيرًا في الغرب، فإن المهندسين في إيران لهم دور بارز أيضًا، البرامج الهندسية والطبية تَجذِب الموهوبين من الشباب الإيراني، هذا بالإضافة إلى أنَّ الشباب من ذوي الطموحات العالية لهم دور بارز في المجتمع، وقد شجَّعت إيران التعليم الطبي منذ عام 1911، كما شجَّعت الدراسة والتدريب في ميدان الطب الحديث، وهذا أدَّى بدوره إلى التقليل من دور المعالجين الشعبيين، وفي إيران تقلَّد الأطبَّاء مناصب عُليَا.
طبيب الأطفال "علي أكبر ولايتي" هو مستشار الشؤون الخارجية للقائد الأعلى، تدرَّب لمرحلة ما بعد الدكتوراه في جامعة "جون هوبكنز"، "عباس شيباني" العضو المتشدِّد في مجلس مدينة طهران ووزير الزراعة السابق، انتَقَل من ميدان الطب إلى السياسة، الطبيب "حسين شريعت مداري" رئيس تحرير الصحيفة الإيرانية اليومية "كيهان" هو مساعد القائد الأعلى "علي خامنئي".
إن تأثير الأطبَّاء والمهندسين في إيران يَعكِس ضعْف المبادئ الليبراليَّة، وفي غِياب الليبرالية التي ارتبطَتْ بالغرب حدث فَراغ سَدَّه المُوالُون للثورة، ومن المُهِمِّ القول بأن الالتِزام بمبادئ الثورة في إيران أعطى المهندسين والأطبَّاء فرصة لتقدُّم اجتماعي وسياسي سريع".
الذي يهمُّنا من كلِّ هذا هو الإجابة على سؤال مهم وهو: عند حدوث مواجهة حقيقية بين الإسلام من ناحية، وبين الغرب وإسرائيل من ناحية أخرى، هل تُضاف قوة إيران ومكتسباتها العلمية إلى رصيد الأمَّة الإسلامية أم يُخصَم منها؟
يُجِيب على هذا السؤال الباحث الإستراتيجي الأمريكي اليهودي الأصل "ستانلي فايس" فيقول: "العَداوَة بين إيران وإسرائيل ليست سوى شذوذ عن مَسِيرة العلاقات التاريخية بين الشعبين، فقد عملت الروابط الثقافيَّة والمصالح الإستراتيجية بين الفرس واليهود على جعْل إيران وإسرائيل حليفتين متضامنتين لحين قيام الثورة الإسلامية في إيران، وعلى الرغم من الصورة القاتمة لما آلَتْ إليه العلاقات بين البلدَيْن في الوقت الحاضر، فإنَّ المصالح الإستراتيجية الثابتة تُشِير إلى أنَّ إعادة إحياء الشراكة الفارسية - اليهودية أمر محتوم، وإن لم يكن مُتَوقَّعًا على المَدَى القريب؛ ففي حالة نُشُوب حرب إقليمية واسِعَة بين الشيعة والسنَّة ستَجِد إيران وإسرائيل أنهما أصبحتا ثانيةً بمواجهة عدوٍّ مشترك".
ويقول "خاتمي" مستشار الرئيس الإيراني السابق: "لولانا ما انتصرت الولايات المتَّحدة في أفغانستان والعراق"، يقول "أمير سعيد": "لقد بات هذا التصريح من الشهرة بحيث لم يَعُدْ خافيًا هذا التواطُؤ المبنيُّ على أسس عقَدِيَّة يتخلَّف عنها مصالح إستراتيجية".
الذي يبدو لنا أن تحوُّل الميول الإسلامية عند الأطبَّاء إلى تطبيقات لمعتقداتهم الدينية في عالم الواقع - وخاصَّة عقيدةَ الجهاد - هو الذي أثار مخاوِف الغرب، ويُمكِن أن نقول:
إن الغرب قد لاحَظ هذا التحوُّل في الميادين الآتية:
1 - اندرَج الأطبَّاء من ذوي التوجُّهات الإسلامية تحت رايَة النِّقابات الطبية والهيئات الطبية الرسمية الأخرى، وتَمَكَّنوا من إثبات وجودهم بصورة ذكيَّة في حالات الطوارئ والأزمات، خاصَّة في الوقت الذي كانت تعجز فيه الحكومة عن الوفاء بالالتِزامات الواجبة عليها، وهنا يُسرِع هؤلاء الأطبَّاء لسدِّ الفراغ.
حدث هذا في مصر، وحدث كذلك في باكستان؛ فعندما ضرب زلزال قوي كشمير في 8 أكتوبر 2008 اندفعت التنظيمات الإسلامية إلى منطقة الزلزال، وأمدَّت المتضرِّرين بالمأوى والطعام الساخن والشراب والملابس وكافَّة احتياجاتهم الأخرى، حظر الجنرال "مشرف" وقتها على سبعة عشر تنظيمًا إسلاميًّا العمل بالمنطقة، والتزمت الحكومة بالإسعافات وإعادة البناء، كتبت "الديلي تلجراف" وقتها تقول: "لقد أمدَّت الجماعات الإسلامية بمعظم عمليات المساعدة الأكثر فاعلية في بعض المناطق التي ضربها الزلزال في كشمير ومنطقة الحدود الشمالية الغربية"، يقول الباحثون الغربيون: "لقد ساعدت التنظيمات الإسلامية والجهادية في إدارة سبعة وثلاثين معسكرًا للاجئين من مجموع ثلاثة وسبعين في منطقة مظفر أباد... إن لهذه التنظيمات وجودًا قويًّا في كل مناطق باكستان التي تأثَّرت بالزلزال... إن هذه المساعدات الطبية الممتدَّة ساعدت القضية الإسلامية في عِدَّة جبهات... إنَّ الأطبَّاء لا يستطيعون تغيير عقيدة الشخص فقط، بل يستَطِيعون جمع التمويل اللازم للعمليات الجهادية والتنظيمات الجهادية".
الذي يخافه الغرب هنا هو: أن هذا الدور الفعَّال الذي يقوم به الأطبَّاء الجهاديُّون في أوقات الكوارث والأزمات يُكسِبهم ثقة الجماهير؛ ومن ثَمَّ تتَّسع الدائرة التي يُمكِن تجنيد الشباب منها للعمليَّات الجهادية.
2 - دقَّق الباحثون الغربيون في إستراتيجية كبار قادَة التنظيمات الجهادية في تجنيد الشباب لعضويَّتها، فوجدوا أنَّ أحدهم - وكان طبيبًا - كان يَقُوم بتقديم رعاية طبية وجراحية فائقة للفُقَراء في الكهوف ومناطق الجبال، أمَّا الآخر فقد استَخدَم ثروته المالية في بناء مستشفيات ومدارس في المناطق الفقيرة، وقد كتب "شهيد أطهر" الأستاذ المشارِك في مدرسة الطب بجامعة إنديانا كتابًا عن "الطب الإسلامي" أُعِيد نشره على شكل مقالات على شبكة الإنترنت، رأى الباحثون الغربيون أن هذه المقالات تصلح لبيان الكيفية التي يتحوَّل بها الطبيب إلى ما يسمونه "التطرف الإسلامي"، أوضح "أطهر" في هذه المقالات مستندًا إلى آيات من القرآن أنه ليست هناك فجوة بين الطب والدين كما هو الحال في الغرب، كما أن ميثاق الأخلاقيات الطبية الإسلامية يقرِّر أن على الطبيب أن يكون مُلِمًّا بمعارف عن العبادة وعن التشريع وأصول الفقه، بحيث يكون قادرًا على توجيه مرضاه في شؤون صحَّة البدن، وكذلك في شؤون العبادة والسلوكيات الإسلامية، أمَّا "محمود أبو السعود" فقد وصَفَه الباحثون الغربيون بأنه "إيديولوجي إسلامي مصري"، مكث سنوات طويلة في الولايات المتَّحدة، كتب عن دور الطبيب المسلم مع كتابات "أطهر"، يقول أبو السعود: "إن للطبيب المسلم كلمة قويَّة ووزنًا كبيرًا في التأثير على مرضاه، وتوجيههم إلى الخير والتقوى، كما أنه يُمكِن أن يُكون فعّالاً نشطًا في عرض الإسلام الحقيقي للمسلمين وغير المسلمين، إنَّ أفضل ما يُمكِن أن يدعو فيه الطبيب المسلم إلى الإسلام هو أن يَتَطابَق سلوكه مع تَعالِيم الإسلام، وأن يُعلِن عن قناعاته هذه ويفخر بها"، وهذا في حَدِّ ذاته ردٌّ على كلِّ اتِّهامات "شلوسل" التي أشرنا إليها سابقًا.
3 - يرى الباحثون الغربيون أن مَكْمَن الخطر من الأطبَّاء الجهاديين يَكمُن في أن الأطبَّاء يَفُوقون مُنافِسيهم من الجهاديين من أَوجُه عدَّة.
إنهم يستطيعون التحرُّك بحريَّة أكثر وإجراءات أمن أقل، كما يُمكِنهم بحكم معرفتهم بالكيمياء وعلم الأدوية تَزوِيد الجهاد الإسلامي بالموادِّ الحسَّاسة التي يَستَخدِمها الجهاديون في العمليات الجهادية، وعند حدوث مواجهة بين الأطبَّاء المعتدِلين أو من الذين ينتَمُون إلى عقائد أخرى، تكون الأفضلية للأطبَّاء الجهاديين، كما أن الأطبَّاء هم أفضل وسيلة للتسلُّل إلى القرويين وإقناعهم بما يرَوْن؛ لأنَّ أفضل خدمة للقروي هو أن تُرسِل له طبيبًا هو في حاجة إليه.
4 - وجد الباحثون الغربيون أن التنظيمات الإسلامية ترى أن رفْض العلمانية الغربية لا يعني رفض العلم والاكتِشافات الحديثة، وأشاروا في ذلك إلى ما نبَّه إليه المفكِّرون الإسلاميون المحدَثون من أنه: "لا ضَيْرَ من الانتفاع بجهود البشر كلهم في العلوم البحتة علمًا وتطبيقًا، مع ربْطها بالمنهج الإيماني من ناحية، والشعور بها وكونها من تسخير الله للإنسان، ومن ناحية توجيهها والانتِفاع بها في خير البشرية وتوفير الأمن والرَّخاء لها، أمَّا التلقِّي في مسائل الإيمان، وغاية الوجود الإنساني، ومنهج الحياة وأنظمتها وشرائعها، ومنهج الأخلاق والسلوك - فلا يكون إلا من الله - عزَّ وجلَّ".
وانتهى الباحثون الغربيون إلى القول بأن الإسلاميين يُبارِكون دراسة الميادين العلمية الحديثة المتطوِّرة من الغرب، وأنَّهم يبحثون عن توفيق أوسع بين الإسلام والعلم، الذي فات على الباحثين الغربيين، إن المسألة ليست مجرَّد بحثٍ عن توفيق أوسع بين الإسلام والعلم، وإنما هي قواعد مقرَّرة ثابتة كتَبَ عنها علماء الإسلام القُدامَى قبل المُحدَثِين منهم؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة في معرض أخْذ العلوم من الكفَّار بقوله: "إذا ذكَرُوا ما لا يتعلَّق بالدين؛ مثل: مسائل الطب والحساب المحض... وغايته الانتِفاع بآثار الكفار والمُنافِقين في أمور الدنيا، فهذا جائز؛ فأخذهم علم الطب من كتبهم مثل الاستِدلال بالكافر على الطريق واستطبابه.... وإن ذكروا ما يَتَعلَّق بالدين فإن نقَلُوه عن الأنبياء كانوا فيه كأهل الكتاب وأسوأ حالاً"، ("الفتاوى" 4/ 114).
كما كان الشيخ "مصطفى صبري" يُؤَكِّد دائمًا على تسانُد الدين والعلم، وتسانُد الدين والعقل في الإسلام؛ يقول الشيخ مصطفى صبري: "إن العلم لا يُناوِئ الدين ولا يسعه أن يُناوِئه، والعلم ونعني به: التصديق؛ أي: معرفة مضمون قضية من القضايا - يُستَعمل على معنيين: الأوَّل المعرفة الجازمة، سواء كانت مبنية على البداهة أو المشاهدة، أو على معرفة سببها، والمعنى الثاني للعلم: أنه اسمٌ لكلِّ علم من العلوم المدوَّنة؛ مثل: الهندسة والطبيعة... إلخ، فالعلم بالمعنى الأوَّل نجده مُؤَيِّدا للدين، وأما العلم بالمعنى الثاني فكلُّ علم يشتَغِل بخويصة نفسه، وبعبارة أخرى: يحكم في المسائل التي تتعلَّق بموضوعه، ويقف ما وراء ذلك على الحِياد؛ لا يُثبَت ولا يُنفَى، ولا يدِّعِي لنفسه حقَّ الحكم فيه".
5 - أشار الباحثون الغربيون إلى مسألة في غاية الأهميَّة تحتاج إلى وقفة دقيقة؛ يقول هؤلاء الباحثون: "المشكلة بالنسبة للمهاجرين الذين يَدرسون علوم الطب ومثيلاتها في بلاد الغرب، تَكمُن في طريقة تَدرِيس هذه المواد، يقضي الطلاب المسلمون وقتًا طويلاً في دراسة مُرَكَّزة شاقَّة مع تعرُّض قليل جدًّا أو تافِه جدًّا لدراسة الآداب والإنسانيات، فهذه الدراسات الأخيرة من شأنها أن تُثِير في الدارِسين وجهات نظر تُمَكِّنهم من مُواجَهَة وتَحَدِّي الدين، وفي هذا الجوِّ التعليمي الذي يُرَكِّز على الدراسة العلمية المكثَّفة مع غياب دراسة الإنسانيات، يُقَدِّم "الإسلام المتطرِّف" نفسَه كتعبير عقلاني وحديث للإيمان، مع مُلاحَظة أن هذا "التفسير المتطرِّف" للإسلام غير مُعقَّد، ولا يحتاج جهدًا ولا وقتًا كبيًرا لفَهْمِه، ومن هنا يكون أكثر جاذبية للمهنيين الذين يُكَرِّسون حياتهم لدراسة الطب".
هكذا وجد الباحثون الغربيون بُعدًا جديدًا لفهم ما يسمُّونه بـ"تطرُّف الأطبَّاء" وقيامهم بالعمليات الجهادية، لكن هذه النقطة الأخيرة تكشِف لنا لماذا تركَّزت البعثات الطلابية المُرسَلَة من دُوَل العالم الإسلامي إلى بِلاد الغرْب في الماضي والحاضر حول الدراسات الإنسانية، والقليل منه كان مُوَجَّهًا إلى الدراسات العلمية؛ إنها من ناحِيَة تُوسِّع الفجوة بين تقدُّم الغرب وتخلُّف المسلمين، ومن ناحية أخرى تَبنِي جِيلاً من الصفوة يتحدَّى الدين؛ لما تُثِيره هذه العلوم من شُكُوك حول الدين ودعوة لتبنِّي الإلحاد.
وقد أثمرت دراسة الباحِثين المسلمين للآداب والإنسانيات الغربية؛ فأنتجت قيادات تمثِّل جيشًا جرَّارًا من العُمَلاء في صُورَة أساتذة وفلاسفة، ودكاتِرَة وباحثين، وأحيانًا كُتَّاب وشُعَراء، وفنَّانين وصحفيين يحملون أسماء إسلامية، يقوم هذا الجيش بمهمَّة خلخلة العقيدة في النفوس بشَتَّى الأساليب، في صورة بحث وعلم، وأدب وفن وصحافة، وتوهين قواعد هذه العقيدة من الأساس، والتَّهوِين من شأن العقيدة والشريعة على السواء، وتأويلها وتحميلها ما لا تُطِيق، والدق المتَّصِل على رجعيَّتها، والدعوة للتَّفلُّت منها، وإبعادها عن مجالات الحياة، وابتِداع تصوُّرات ومُثُل وقواعد للشُّعور والسلوك، تُناقِض وتُحَطِّم أسس العقيدة ذاتها، كما تقوم بتزيين تلك التصوُّرات المبتدعة بقدر تشويه أمور العقيدة، بالإضافة إلى الدعوة إلى إطلاق الشهوات، وسحْق القاعدة الخلقية التي تقوم عليها هذه العقيدة، وفوق هذا وذاك تعمل على تشويه التاريخ الإسلامي وتشويه النصوص الدينية على حدِّ قول المفكرين الإسلاميين.
إن أهميَّة هذا التفسير الأخير لما يسمونه بظاهرة "تطرف الأطبَّاء" هو أنه كشف عن بداية جديدة حقيقية لنهضة الأمَّة، وأن جيلاً جديدًا من الشباب قد تحرَّر من قيد دراسة الإنسانيات والآداب التي أعاقَتْ نهضة هذه الأمَّة، واتَّجه إلى دراسة ما يُفِيد من العلوم والضروري لتقدُّم الأمَّة، مُرتَكِزًا على عقيدة صلبة، تضع الجهاد في موضعه المناسب، وتتحدَّى به أكبر قوَّة شرسة في العالم.
ويكفي هنا الإشارة إلى ما قاله "شوارتز": "أنه ما لم ينجح الغرب في الضغط على الدُّوَل الإسلامية - وخاصَّة دُوَل الخليج - ومواطنيها في وقف دعْمها المالي للجماعات الإسلامية المتطرِّفة، فإن الإسلاميين لن يبتلعوا فقط الأخلاقيات الطبية الغربية، بل سيقضون على آخِر مَظاهِر الليبرالية في الغرب".
(انظر كتابنا: "اعترافات علماء الاجتِماع"، المنتدى الإسلامي، لندن، 1993، وكذلك مقالاتنا: "العلوم الاجتِماعية والدين: تعايش أم تصادُم؟"، "علم الاجتماع: أقصر الطرق إلى الإلحاد"، "أسطورة علم النفس: عقم في النظرية، وقُصُور في المنهج، وازدِراء للدين"، في موقعي بوابتي تونس ونور الإسلام).
المصدر : نقلا عن موقع الألوكة
الإحالة:
1 - أمير سعيد: خريطة الشيعة في العالم، مركز الرسالة الدراسات والبحوث الإنسانية، القاهرة ص: 33 - 34.
2 - محمد محمد حسين، الإسلام والحضارة الغربية، دار الرسالة، السعودية، الطبعة التاسعة، ص 117.
3 - مصطفى صبري، موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، ج 2 ص 275 - 276.
4 - Stephen Schwartz، Scientific Training and Radical Islam، Middle East Quarterly، Spring 2008، pp. 3 - 11.
http: / / www.meforum.org/ 1861/ scientific - training - and - radical - islam
5 - www.debbie schlussel.com/ .../ I told - you - so - the - muslim - doctor - terrorists - are - no - surprise - revealing - muslim - doctors - oath.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: