لاحظت في مقال سابق أن هناك عودة إلى ما يمكن أن يسمى الكنيسة الأرثوذكسية، تمثلت في ما ذكر عن تزايد أعداد المتنصرين في الفترة الأخيرة، وبروزهم إلى مجال الصدارة الإعلامية، بجانب عودة أعداد كبيرة ممن قيل أنهم كانوا اعتنقوا الإسلام لأسباب تتعلق بموضوع الأحوال الأسرية في المسيحية أو غير ذلك من الأسباب، والذين أرادوا الآن العودة إلى أحضان الكنيسة وسط دعاية إعلامية كبيرة أيضًا.
ولقد ظهر هذا الاتجاه في الأشهر الأخيرة، وكان السبب الأساسي فيه كما يرى الجميع هو بروز قوة الكنيسة الأرثوذكسية القبطية في مصر بروزًا كبيرًا في الأعوام الأخيرة، بفضل ما أصبح لها من حضور قوي على الساحة الدولية، وبالذات في البلاد المؤثرة مثل أمريكا وبعض بلدان أوروبا الغربية، وكذلك بفضل ما أصبح لها من حضور على الساحة الداخلية بفضل وجود أعداد كبيرة من رجال الأعمال الأغنياء الذين يمدونها بالدعم، وبفضل تحولها من كنيسة إلى ما أشبه بحزب سياسي يضم في عضويته بضع ملايين من الأفراد، ألقوا إليه هدية سهلة من جانب الدولة التي دعمت وباركت تحول الكنيسة إلى الممثل الوحيد والناطق الوحيد باسم أقباط مصر، على اختلاف ميولهم وتوجهاتهم، وكأنهم جميعًا أصبحوا مجرد أعضاء مطيعين خاضعين في حزب سياسي مهيمن.
إلا أن قوة الكنيسة الأرثوذكسية ترجع أيضًا إلى عوامل أخرى، وهي هذه القوة التي أدت بها إلى أن تصبح مصدر جذب لمن كانوا تركوها، أو مصدر جذب حتى لبعض أفراد المسلمين مذبذبي العقيدة والهوية.
ولعل أهم مصادر قوة الكنيسة في الفترة الراهنة هي الإضعاف والهدم المتعمد الذي صُبَّ من جانب أجهزة مختلفة، ومن جانب تيارات مختلفة على الوسط الإسلامي العام، حيث ضُربت المؤسسة الدينية بلا رحمة، كما ضربت أيضًا الجماعات والتشكيلات والتنظيمات الإسلامية المختلفة، بحيث لم يبق في الساحة الإسلامية الآن من يقوموا بالدعوة إلا أفراد قلائل عليهم علامات استفهام ضخمة، لا سيما من حيث الأفكار التي يروجون لها، وهي أفكار تصب في خانة التجهيل أو حتى في خانة التنفير من الإسلام في نهاية المطاف.
إن تحول الكنيسة إلى القوة الاجتماعية الوحيدة في مصر، بل المؤسسة الوحيدة المنظمة والقوية في مصر بفضل قواعدها الاقتصادية والجماهيرية وعلاقاتها الخارجية، كل هذا أغرى وأدى إلى عودة من كانوا تركوها، كما أدى أيضًا إلى اجتذاب أعداد من المسلمين ضعاف الإيمان إليها، وهي أعداد أخشى أن أقول أنها سوف تتزايد في الفترة القادمة، مع شعور الكنيسة بالقوة، ومع تحركها بحرية في مجال التنصير، مستخدمة الأموال، ومستخدمة أيضًا القنوات التليفزيونية العديدة التي فُتحت لها، وسُمح لها بالبث من خلال القمر الصناعي المصري، وهو الأكثر مشاهدة في البلاد.
إلا أنه يجب أن يُذكر لوجه الحق أن قوة الكنيسة وحدها، وهي القوة التي أوصلتها إلى أن تتفاوض معها الدولة بشأن تأييد مشاريع الخلافة، ومستقبل الحكم في مصر ـ أقول أن هذه القوة وحدها ليست هي السبب الوحيد أو الكافي لتفسير ظاهرة العودة إلى النصرانية على مستويات عدة، أو ظاهرة شراسة حركة التنصير في الفترة الأخيرة، فلا بد أن يُشار في هذا الصدد وبكل صراحة ووضوح إلى المسئولية التي يتحملها في هذا المجال فريق من الأشخاص الذين يعملون الآن في مجال الخطاب الإسلامي، والذين أعطيت لهم فجأة وبدون سابق إنذار بل وبدون مبررات واضحة، مساحة من الحرية لا تتوفر الآن لأحد في مصر، بل أقول لا تتوفر حتى لأنصار النظام القائم أنفسهم أو بعضهم. لقد شهدنا في الفترة الأخيرة قنوات تليفزيونية تفتح للبعض، وهي القنوات التي لم تفتح ولا يمكن أن تفتح لتيارات أخرى، سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية، كما شهدنا تسليمًا لمنابر العديد من المساجد إلى هذا الفريق من الناس، وهي المنابر التي لا تسلم لأحد إلا بموافقات طويلة ومضنية من جهات الأمن وغيرها من الجهات، بل هي المنابر التي تُنزع الآن من جانب الجميع، وحتى تنزع من جانب علماء الأزهر أنفسهم.
وفي نفس الوقت فقد مُنح أعضاء هذا الفريق العامل داخل الخطاب الإسلامي أهمية ووزنًا ومكانة تفوق أضعافًا مضاعفة وزنهم الحقيقي، الذي لم يكن أحد يشعر به قبل أشهر قليلة من الآن، حتى تحولوا بفضل هذه الدعاية إلى نجوم في عالم الخطابة الإسلامية أو عالم الإفتاء أو عالم الفكر الإسلامي، وهم لم يكونوا شيئًا مذكورًا قبل سنوات قليلة، وقد تمتعوا بهذا كله بفضل تلك الدعاية التي أعطيت لهم، مع إبعاد الآخرين ممن هم أجدر بالصدارة عنهم، ولاسيما من علماء الأزهر، أو من أبناء بعض الجماعات والمؤسسات الإسلامية العريقة والعاملة في مجال الدعوة. والمشكلة الأساسية في هذا الفريق وبعيدًا عن أي اعتبارات أخرى، هي أن المادة التي يقدمونها أو نوعية الخطاب الذي يقدمونه هو خطاب يصب في نهاية الأمر في مجال تنفير الناس من الإسلام، وذلك بفضل أجواء من السطحية أو الانشغال بقضايا فرعية لا تهم أحدًا، أو الذهول عن عالم المعاصرة، أو ـ وهو الأهم ـ التملق للحكام الموجودين أو للسياسات القائمة مهما كانت درجة عدائها وتنافرها مع الإسلام.
وإني أعتقد اعتقادًا جازمًا أن هذه المساحة التي أُعطيت لذلك التيار ما أعطيت له إلا ليكون حربًا في نهاية الأمر، وأنه حربًا مستترة على الخطاب الإسلامي المعتدل والمستنير والواضح، وهو بذلك يُعد أحد أسباب ظاهرة العودة إلى المسيحية عند البعض، أو بروز ظاهرة التنصر عند البعض الآخر، ولا يخامرني شك في أننا سوف نشهد في الفترات القادمة تزايدًا في أعداد الذاهبين للكنيسة، ليس فقط بفضل قوة الكنيسة وإغراءاتها المادية لضعاف الإيمان من المسلمين، وإنما أكثر للساخطين على هذا الفرع من الخطاب الإسلامي، الذي أُعطي احتكارًا للساحة، وهو غير جدير به، وغير جدير لكي يكون خطابًا إسلاميًّا على الإطلاق.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: