|
من قواعد النصر في القرآن الكريم - 24 - ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم
أ. د/ احمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
المشاهدات: 5501
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
" ما من مرة سارت الأمة علي نهج الله، وحكّمت هذا النهج في الحياة، وارتضته في كل أمورها، إلا تحقق وعد الله بالاستخلاف والتمكين والأمن،،، وما من مرة خالفت عن هذا النهج إلا تخلفت في ذيل القافلة، وذلت، وطُرِد دينها من الهيمنة علي البشرية، واستبد بها الخوف وتخطفها الأعداء"..
************
المحتويات :
تمهيــــد :
- من الوعود الإلهية للأمة بالنصر والتمكين :
* أولا : حقيقة الإستخلاف في الأرض :
* ثانيا : حقيقة التمكين للدين الحق وأتباعه :
* ثالثا : الأمن والأمان والطمأنينة :
- فوائد على هوامش القاعدة :
* أن وعد الله حق لا ريب فيه :
* أن الله تعالى لا يخلف الميعاد :
* أن لتحقق الوعد شروط في حق الموعود لابد أن تتوفر
* بين انوار الوعد الإلهي ونيران الوعيد في القرآن الكريم :
* الوعد الالهي بالنصر والتمكين للمؤمنين من أهم أسباب الثبات على الحق :
* أن حتمية وقوع وعد الله وتحققه لا تعني أنه قد لا يتأخر :
* أن الله تعالى حذرنا بشدة من وعود الشيطان التي هي مناقضة لوعةد الرحمن:
* أن العمل قرين الايمان في التصور الاسلامي :
- نماذج لوعود القرآن وكيف أنها تحققت على أرض الواقع :
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
أمــا بعــد :
تمهيــد :
وها نحن نعيش في هذه الحلقة مع قاعدة جديدة من قواعد النصر والتمكين كما ذكرت في القرآن الكريم، والتي تشير إلى أنوار الوعد الإلهي للأمة الإسلامية، ومضمون القاعدة يقول أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الموعودون من رب الأرض والسماوات بالإستخلاف في الأرض، والتمكين للدين، والتأمين من المخاوف، وهو ما يجسده قول الله تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }( النور : 55 )،
- نحن إذا أمام واحد من الوعود الإلهية الكريمة لهذه الأمة المحمدية المرحومة بإذن الله ، تلك الوعود التي تشع نورا وبهاءا، وينطلق منها عبير الأمل والرجاء الذي يملأ النفوس المؤمنة إيمانا ويقينا وثقة في الله تعالى، ويملأ القلوب همة وعزما على مراجعة النفس، والعمل الجاد من أجل تغيير ما بالأنفس لتصبح الأمة أهلا لتحقيق موعود الله عز وجل،
نحن أمام قانون إلهي، وسنة ربانية ماضية منسنن النصر والتمكين، وسنن الله لا تتغير ولا تتبدل ولا تتخلف :
الإيمان الحق + عمل الصالحات = الإستخلاف في الأرض + التمكين للدين + الأمن والطمانينة من كافة المخاوف
- إنها ثلاثة وعود إلهية للذين آمنوا وعملوا الصالحات :
وتبين الآية الكريمة لمن تدبرها أنها تتضمن ثلاثة وعود إلهية لأمة محمد من المؤمنين العاملين :
الوعد الأول : الاستخلاف : { .... لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم...}، قال أهل التفسير { كما استخلف الذين من قبلهم }يعني بني إسرائيل استخلفهم في مصر والشام بعد الجبابرة، وقرأ أبو بكر بضم التاء وكسر اللام، وإذا ابتدأ ضم الألف، والباقون بفتحهما، وإذا ابتدؤوا كسروا الألف .
الثاني : التمكين : {.... وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ....}، وهو الإسلام،
الثالث : الأمن والأمان والتطمين : {....وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنا..}، أي من بعد خوفهم من الأعداء، أمنا منهم،
- أولا : حقيقة الإستخلاف في الأرض :
وحقيقة الاستخلاف هنا ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم، إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء والتشييد، وتحقيق وتجسيد المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه ؛ وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض، اللائق بخليقة أكرمها الله عز وجل، إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح، { ...هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ..} ( هود : 61 )، لا على الهدم والإفساد، {....وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ...} ( الأعراف : 56 )، وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة، لا على الظلم والقهر والاستبداد، {...إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ...} ( النحل : 90 )، وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري، لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان!
وهذا الاستخلاف هو الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم ليحققوا النهج الذي أراده الله، ويقرروا العدل الذي أراده الله، ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها الله، فأما الذين يملكون فيفسدون في الأرض، وينشرون فيها البغي والجور، وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان، فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض، إنما هم مبتلون بما هم فيه، أو مبتلى بهم غيرهم، ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها الله تعالى (1)،
- ثانيا : حقيقة التمكين للدين الحق وأتباعه :
إن تمكين الدين الحق وهو الإسلام - {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ...} ( آل عمران : 19) - الذي ارتضاه الله تعالى للمؤمنين – { ....وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ...} (المائدة : 3 )، إنما يتم بتمكينه في القلوب، كما يتم بتمكينه في تصريف شئون الحياة وتدبيرها، فقد وعدهم الله إذن أن يستخلفهم في الأرض، وأن يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الأرض، ودينهم يأمر بالإصلاح، ويأمر بالعدل، ويأمر بالاستعلاء على شهوات الأرض، ويأمر بعمارة هذه الأرض، والانتفاع بكل ما أودعها الله من ثروة، ومن رصيد، ومن طاقة، مع التوجه بكل نشاط فيها إلى الله. (2)
قال " الألوسي " في " روح المعاني " : " وقوله تعالى : {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ} عطف على : {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ }، والكلام فيه كالكلام فيه، وتأخيره عنه مع كونه أجل الرغائب الموعودة وأعظمها لما أنه كالأثر للاستخلاف المذكور، وقيل : لما أن النفوس إلى الحظوظ العاجلة أميل، فتصدير المواعيد بها في الاستمالة أدخل، والتمكين في الأصل جعل الشيء في مكان، ثم استعمل في لازمه وهو التثبيت، والمعنى : ليجعلن دينهم ثابتاً مقررًا، بأن يعلي سبحانه شأنه، ويقوي بتأييده تعالى أركانه، ويعظم أهله في نفوس أعدائهم الذين يستغرقون النهار والليل في التدبير لإطفاء أنواره، ويستنهضون الرجال والخيل للتوصل إلى إعفاء آثاره، فيكونون بحيث ييأسون من التجمع لتفريقهم عنه ليذهب من البين، ولا تكاد تحدثهم أنفسهم بالحيلولة بينهم وبينه ليعود أثرًا بعد عين.
وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للمسارعة إلى بيان كون الموعود من منافعهم مع التشويق إلى المؤخر، ولأن في توسيطه بينه وبين وصفه، أعني قوله تعالى : { الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ }، وتأخيره عن الوصف من الإخلال بجزالة النظم الكريم ما لا يخفى، وفي إضافة الدين وهو دين الإسلام إليهم، ثم وصفه بارتضائه لهم من مزيد الترغيب فيه والتثبيت عليه.(3)
كما أن تمكين الدين – كما يقول " ابن عاشور " : " إنما يعني : انتشاره في القبائل والأمم وكثرة متبعيه، استعير التمكين الذي حقيقته التثبيت والترسيخ لمعنى الشيوع والانتشار؛ لأنه إذا انتشر لم يخش عليه الانعدام، فكان كالشيء المثبَّت المرسّخ، وإذا كان متَّبعوه في قلة كان كالشيء المضطرب المتزلزل، وهذا الوعد هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، منها حديث ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا " ( رواه الإمام مسلم في صحيحه )، وقوله : { لَهُمْ } مقتضى الظاهر فيه أن يكون بعد قوله : { دِينَهُمُ }؛ لأن المجرور بالحرف أضعف تعلقًا من مفعول الفعل، فقدم { لَهُمْ } عليه للإيماء إلى العناية بهم، أي بكون التمكين لأجلهم، كتقديم المجرور على المفعولين في قوله : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ }( الشرح : 1- 2 )، وإضافة الدين إلى ضميرهم لتشريفهم به، لأنه دين الله، كما دل عليه قوله عقبه : { الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ }، أي الذي اختاره ليكون دينهم، فيقتضي ذلك أنه اختارهم أيضاً ليكونوا أتباع هذا الدين، وفيه إشارة إلى أن الموصوفين بهذه الصلة هم الذين ينشرون هذا الدين في الأمم ؛ لأنه دينهم فيكون تمكنه في الناس بواسطتهم.(4)،
- ثالثا : الأمن والأمان والطمأنينة :
قال " صاحب الظلال " : " ولقد كانوا خائفين، لا يأمنون، ولا يضعون سلاحهم أبداً حتى بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قاعدة الإسلام الأولى بالمدينة ، قال ( الربيع بن أنس ) عن ( أبي العالية ) في هذه الآية : " كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وإلى عبادته وحده بلا شريك له، سراً وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال ؛ حتى أمروا بعد الهجرة إلى المدينة، فقدموها، فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين، يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح؛ فصبروا على ذلك ما شاء الله، ثم إن رجلاً من الصحابة قال : يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لن تصبروا إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم ليست فيه حديدة "، وأَنزل الله هذه الآية، فأَظهر الله نبيه على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح، ثم إن الله قبض نبيه صلى الله عليه وسلم فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان (5)،
قال " ابن عاشور " : " وإنما قال : { وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا } ولم يقل : وليؤمننهم، كما قال في سابقَيْه ؛ لأنهم ما كانوا يطمحون يومئذٍ إلا إلى الأمن، كما ورد في حديث أبي العالية المتقدم آنفًا، فكانوا في حالة هي ضد الأمن، ولو أعطوا الأمن دون أن يكونوا في حالة خوف لكان الأمن مِنّة واحدة، وإضافة الخوف إلى ضميرهم للإشارة إلى أنه خوف معروف مقرر، وتنكير { أَمْنًا } للتعظيم، بقرينة كونه مبدّلاً من بعد خوفهم المعروف بالشدة، والمقصود : الأمن من أعدائهم المشركين والمنافقين، وفيه بشارة بأن الله مزيل الشرك والنفاق من الأمة، وليس هذا الوعد بمقتض أن لا تحدث حوادث خوف في الأمة في بعض الأقطار كالخوف الذي اعترى أهل المدينة من ثورة أهل مصر الذين قادهم الضالّ مالك الأشتر النخعي، ومثل الخوف الذي حدث في المدينة يوم الحرّة وغير ذلك من الحوادث، وإنما كانت تلك مسببات عن أسباب بشرية وإلى الله إيابهم، وعلى الله حسابهم . (6)،
إن تبديل الخوف أمنا إنما يكون بأن يظهرَ الله دينه، ويعلِيَ القائمين به، ويرفعُ درجتَهم، ويقوي سلطانَهم، قال تعالى : {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } ( الأنعام : 82 )، أي : الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه ولم يخلطوا إيمانهم بشرك , أولئك لهم الطمأنينة والسلامة , وهم الموفقون إلى طريق الحق، وقال تعالى : {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ( الأنعام : 81 )، أي : وكيف أخاف أوثانكم وأنتم لا تخافون ربي الذي خلقكم, وخلق أوثانكم التي أشركتموها معه في العبادة, من غير حجة لكم على ذلك؟ فأي الفريقين: فريق المشركين وفريق الموحدين أحق بالطمأنينة والسلامة والأمن من عذاب الله؟ إن كنتم تعلمون صدق ما أقول فأخبروني.( التفسير الميسر )،
- شروط الاستخلاف والتمكين والأمن :
وحتى يتحقق وعد الله تعالى للأمة بالاستخلاف في الأرض، والتمكين للدين وأهله، والأمن والطمأنينة من بعد الخوف، لابد من توافر شروطه، وانتفاء موانعه، ولقد حددت الآية الكريمة لتحقق هذا الوعد شروطا على الأمة أن تستوفيها، وكذلك ثمة مقومات ومقتضيات لاستمرارية الاستخلاف والتمكين والأمن، وموانع ينبغي أن تنتفي،
يقول " الغزالي " رحمه الله حول شروط التمكين : " .....وحالة المسلمين فى هذا العصر رديئة، والهزائم المادية والمعنوية تحيط بهم، ولكن الله فتح أمامهم أبواب الآمال عندما قال لهم : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم...}، على أن هذا التمكين يحتاج إلى مقدمات طويلة، وجهود موصولة، فإن للقيادة والسيادة مؤهلات لابد من تحصيلها ويستحيل أن يتحقق لعاطل أمل، ولننظر ما فعل الرسول وصحبه عندما أرادوا إقامة دولة للإيمان، لقد مكثوا قرابة ربع قرن يصارعون الوثنية العربية حتى هزموها، ثم جمعوا بالتوحيد فلول العرب، ومالوا على الرومان والفرس ميلة واحدة، فما هى إلا جولات يسيرة حتى أصبح المسلمون الدولة الأولى فى العالم!!. خلال ثلاثين سنة من نزول "اقرأ... " تحول رجل واحد إلى أمة رائعة تأخذ لربها ولنفسها ما تريد!!. كان يستحيل - فى الخيال - أن تتحول أسرة فقيرة فى مكة إلى دولة تبسط سلطانها على العالمين!! ما هى الوسائل؟ {يعبدونني لا يشركون بي شيئا }، { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون } !. أهذه وسائل تنهض بها أمة؟ ويسقط بها جبروت حكم العالم كله عشرة قرون؟ { لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض... }، وبديهى أن هذه الوسائل لا يفهمها العجزة والبلة، إنما يفهمها ويحشدها رجال فقهوا سياسة الدنيا والآخرة، وخرجوا من سلطان الأوهام والدنايا، وارتفعوا إلى سيرة محمد وصحابته " (7)،
أما الشروط فهي باختصار كما بينتها الآية : :
* الإيمان الصادق الحق، { وعد الله الذين آمنوا منكم }،
* العمل الصالح، { وعملوا الصالحات }، والعمل الصالح كما دل عليه كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم هو ما جمع أمرين ـ وهما شرطاه ـ وذانكم الأمران هما :
- تجريد الإخلاص لله وحده .
- تجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم،
* تحقيق العبودية الخالصة لله تعالى، { يعبدونني لا يشركون بي شيئا }، وذلك بالمفهوم الشامل للعبادة كما جاء به الإسلام باعتبار العبادة تشمل كافة حركات وسكنات المسلم في شتى جوانب الحياة كما قال الحق تعالى : {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ( الأنعام : 162 )،
- وبعد فتلك هي بعض الشروط التي أمكننا الوقوف عليها - باختصار – من الآية التي نحن بصددها لتحقيق الوعد الإلهي للأمة الاسلامية بالاستخلاف والنصر والتمكين والأمن، وهي كما نرى شروط عامة تتسم بالسعة والشمول بحيث يندرج تحتها العديد من العقائد والقيم والمفاهيم والتصورات والاتجاهات، والآداب والأخلاق والسلوكيات والتصرفات التي تجسدها في أرض الواقع، ولنقرأ تلك الكلمات الرائعة حول حقيقة الإيمان الذي هو شرط للنصر والتمكين والتي سطرها صاحب الظلال إذ يقول : " إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله، حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله؛ وتوجه النشاط الإنساني كله . فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله؛ لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله؛ وهي طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة، لا يبقى معها هوى في النفس، ولا شهوة في القلب، ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله، بخواطر نفسه، وخلجات قلبه . وأشواق روحه، وميول فطرته، وحركات جسمه، ولفتات جوارحه، وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعاً . . يتوجه بهذا كله إلى الله . . يتمثل هذا في قول الله سبحانه في الآية نفسها تعليلاً للاستخلاف والتمكين والأمن : { يعبدونني لا يشركون بي شيئاً } والشرك مداخل وألوان، والتوجه إلى غير الله بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بالله، ذلك الإيمان منهج حياة كامل، يتضمن كل ما أمر الله به، ويدخل فيما أمر الله به توفير الأسباب، وإعداد العدة، والأخذ بالوسائل، والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض . . أمانة الاستخلاف (8)،
ومن الطبيعي أن الأمة إذا أخلت بشرط من شروط التمكين، لم يمكن الله لها حتى تستوفي تلك الشروط، ولو مكن الله للانسان المسلم، أو لجماعة أو حزب، أو للأمة بأسرها ثم هم أخلوا بشرط من شروط التمكين ومقتضياته نزع الله منهم هذا التمكين، فالله تعالى : {لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } ( الرعد : 11 )، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ( الأنفال : 53 )،
وأما مقومات الإستمرارية للإستخلاف والتمكين والأمن فهي :
- الحفاظ على الإيمان الحق والتوحيد الخالص لله تعالى، وديمومة التوحيد والعبودية لله تعالى : {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } ( الحجر : 99 )،
- ديمومة الطاعة التامة، والامتثال الكامل لله ورسوله،
- إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، بدليل قول الله تعالى في الآية التي تلي الآية التي نحن بصددها : {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ{56}( النور )،
- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بدليل قوله تعالى : {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } ( الحج : 41 )، أي : الذين وعدناهم بنصرنا هم الذين إنْ مكَّنَّاهم في الأرض، واستخلفناهم فيها بإظهارهم على عدوهم، أقاموا الصلاة بأدائها في أوقاتها بحدودها، وأخرجوا زكاة أموالهم إلى أهلها، وأمروا بكل ما أمر الله به مِن حقوقه وحقوق عباده، ونَهَوْا عن كل ما نهى الله عنه ورسوله،
- الشكر لله المنعم على نعمة التمكين : وقال تعالى : {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } ( الأعراف : 10 )، ولقد مكَّنَّا لكم – أيها الناس – في الأرض، وجعلناها قرارًا لكم، وجعلنا لكم فيها ما تعيشون به من مطاعم ومشارب، ومع ذلك فشكركم لنعم الله قليل.( التفسير الميسر )،
وأما الموانع التي ينبغي التأكد من انتفائها والتحرر منها فهي :
- الكفر بالله والإشراك به والفسوق : قال تعالى : { يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ{55}( النور )،
فالكفر من عوامل ضياع التمكين واضمحلاله وذهابه : قال تعالى : {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } ( الأنعام : 6 )، والمعنى : ألم يعلم هؤلاء الذين يجحدون وحدانية الله تعالى واستحقاقه وحده العبادة , ويكذبون رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم ما حلَّ بالأمم المكذبة قبلهم من هلاك وتدمير , وقد مكنَّاهم في الأرض ما لم نمكن لكم أيها الكافرون , وأنعمنا عليهم بإنزال الأمطار وجريان الأنهار من تحت مساكنهم ؛ استدراجًا وإملاءً لهم , فكفروا بنعم الله وكذبوا الرسل , فأهلكناهم بسبب ذنونهم , وأنشأنا من بعدهم أممًا أخرى خلفوهم في عمارة الأرض؟ ( التفسير الميسر )،
وقال تعالى : {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون } ( الأحقاف : 26 )، أي : ولقد يسَّرنا لعاد أسباب التمكين في الدنيا على نحوٍ لم نمكنكم فيه معشر كفار قريش , وجعلنا لهم سمعًا يسمعون به, وأبصارًا يبصرون بها, وأفئدة يعقلون بها, فاستعملوها فيما يسخط الله عليهم, فلم تغن عنهم شيئًا إذ كانوا يكذِّبون بحجج الله, ونزل بهم من العذاب ما سخروا به واستعجلوه. وهذا وعيد من الله جل شأنه, وتحذير للكافرين.( التفسير الميسر )،
والفسوق من عوامل هلاك الأمم وسقوطها، قال تعالى : {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } ( الأحقاف : 35 )، أي : ولا يُهْلَكُ بعذاب الله إلا القوم الخارجون عن أمره وطاعته.
- فوائد على هوامش القاعدة :
ثمة مجموعة من الفوائد التي نستجليها من تدبر معاني ومضامين تلك الآية، نذكر بعضها فيما يلي :
* أن وعد الله حق لا ريب فيه : لقد بين القرآن الكريم أن الوعد الحق هو وعد الله تعالى، ولما كان الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، في دعواتهم مبلغين عن الله تعالى، فإن وعدهم صادق… ولكن أكثر الناس لا يعلمون، أو غافلون…، أو في غيهم سادرون، أو غرتهم الحياة الدنيا… أو غرهم بالله الغرور، نعم إن وعد الله حق لا ريب فيه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تلك حقيقة عقدية رسخها القرآن الكريم وألح عليها في غير ما موضع، بل تكررت عبارة " وعد الله حق " حوالي ثلاث عشرة مرة في القرآن الكريم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون تلك الحقيقة، وأكثر الناس - بكل أسف - عنها غافلون، ولا مانع من أن نذكر أنفسنا بتلك المواضع لعل ذلك يكون حافزا لنا لتحقيق المزيد من اليقين بموعود الله والثقة المطلقة في تلك الوعود، فأينما وجدت وعدا لله فاعلم يقينا أنه وعد الحق، وأنه وعد الصدق، قال تعالى : { وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً }( النساء : 122 )، فلا أحد أصدق من الله تعالى قولا ووعدا، تماما كما قال تعالى : {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ }( الأحقاف : 16 )،
وقال تعالى : {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً ...} ( يونس : 4 )،
وقال تعالى : {أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }( يونس : 55 )،
وقال تعالى عن أصحاب الكهف : {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ...} ( الكهف : 21 )،
وقال تعالى عن أم موسى عليه السلام، لما رد إليها طفلها موسى سليما من الأذى والقتل : {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }( القصص : 13 )،
وخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم آمرا إياه بالصبر على ما يناله مِن أذى قومه، وتكذيبهم له , قائلا : {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } ( الروم : 60 )،
وقال تعالى عن خلود أهل الجنة في الجنة : {خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ( لقمان : 9 )،
وفي خطابه لعموم الناس، وأمره لهم بالطاعة والتقوى والانتثال لأوامر الله ونواهيه، وألا ينخدعوا بالحياة الدنيا وزخرفها، وشهواتها ومطالبها، فتنسيهم الأخرى , ولا يخدعنهم بالله خادع من شياطين الجن والإنس، قال تعالى : { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } ( لقمان : 33 )،
ونفس المعنى جاء في قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } ( فاطر : 5 )،
وقال تعالى في خطابه للرسول صلى الله عليه وسلم : {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ }( غافر : 55 )،
وقال أيضا : {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } ( غافر : 77 )،
وقال عن الكفار وكيف أنهم لا يوقنون بوعد الله بقيام الساعة : {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } ( الجاثية : 32 )،
وقال تعالى : {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } ( الأحقاف : 17 )،
من كل هذه الآيات وغيرها تتبين لنا بوضوح تلك الحقيقة التي لا مراء فيها ولا جدال وهي أن وعد الله تعالى الذي جاء في الوحي وعد صادق، والله تعالى وحده هو الذي يملك كل أسباب إنجاز ما وعد فهو عز وجل الذي أمره بين الكاف والنون، وهو وحده جل جلاله الذي قول للشيء كن فيكون : { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } ( يسن : 82 )، سبحانه : {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ( البقرة : 117 )، وهو سبحانه القائل : { .....اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ( آل عمران : 47 )، وقال : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }( النحل : 40 )، وقال : {مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ }( مريم : 35 )، وقال : {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ( غافر : 68 )،
* أن الله تعالى لا يخلف الميعاد : إنها حقيقة عقدية ينبغي أن يوقنها كل مؤمن، وأن ينعقد قلبه عليها، بأن الله تعالى إذا وعد فلابد لوعده أن يتحقق، لماذا ؟ لأن الأمر أمره، والكون كله بيده، ولقد تكرر ذكر هذه الحقيقة في القرآن الكريم نصا في أربع مواضع، وفي هذا يقول الحق تعالى في محكم تنـزيله : {إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (آل عمران : 9، الرعد : 31 )، وقال سبحانه : {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ( الروم : 6 )، وقال جل شأنه : وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ }( الزمر : 20 )، وهذا يعني أن وعد الله متحقق لا محالة، وإن زوال الكون بما فيه ومن فيه أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين،
نعم إن وعد الله متحقق لا محالة، إذا توافرت شروطه، فكل وعد يقطعه صاحبه يستلزم - بوجه عام - لوقوعه وتحققه أمران في حق من يصدر عنه الوعد : الصدق، والقدرة، فالكاذب يخلف الميعاد، والعاجز لا يفي بما وعد لأن قدرته تخونه، ولا شك أن أصدق الوعد وأنجزه وعد الله تبارك وتعالى لماذا ؟ لأن الله تعالى منزه كل التنزيه عن الكذب، ولأن الله تعالى لا يعجزه شيء : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً }( فاطر : 44 )، فلا يُخْلِفُ الله تعالى مَا وَعَدَ ؛ {وَعْدُ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} ( النساء : 122 )، {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} ( الذاريات : 5 )، {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} ( المرسلات : 7 )، {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} ( الأحقاف : 16 )، إن وعد الله تعالى مبثوث في القرآن الكريم لمن قرأه وفهمه وتدبره، فليعتبر المسلم بآياته، وليتعظ بمواعظه، {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} ( ق : 45 )،
* أن لتحقق الوعد شروط في حق الموعود له لابد أن تتوفر : أن جميع الوعود الإلهية التي جاءت في القرآن الكريم إذا دققنا فيها النظر، كانت مرتبة على شروط شرعية , فمن حقق الشرط فقد استحق الوعد، ومن تخلف وترك الشرط خسر الوعد وربما خسر الدنيا والآخرة، وإن الشرط الأكبر الذي رتب الله تعالى عليه جميع وعوده هو تحقيق الإيمان الحق، الإيمان بالله تعالى كما أراد الله، ولنتدبر قول الله تعالى الذي حكم لأناس بالإسلام ونفى عنهم الايمان، وحكم لآخرين بالإيمان، قال تعالى : {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} ( الحجرات : 14 - 15)، فالإيمان كما هو مقرر عند أهل السنة والجماعة : " تصديق بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان "، الايمان تصديق القلب بالله وبرسوله، التصديق الذي لا يرد عليه شك ولا ارتياب، التصديق المطمئن الثابت المستيقن الذي لا يتزعزع ولا يضطرب، لا تهجس فيه الهواجس، ولا يتلجلج فيه القلب والشعور، والذي ينبثق منه بعد ذلك العمل والجهاد بالمال والنفس في سبيل الله، فالقلب متى تذوق حلاوة هذا الإيمان، واطمأن إليه، وثبت عليه، لا بد وأن يندفع لتحقيق حقيقته خارج القلب في واقع الحياة وفي دنيا الناس، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ( الأنفال : 2-4 )، نعم، المؤمنون حقاً هم الذين يستحقون الوعود التي وعد الله تعالى بها،
* بين أنوار الوعد ونيران الوعيد : فكما وعد الله تعالى أهل الإيمان والعمل الصالح بالنصر والتمكين في الدنيا، والاستخلاف في الأرض – كما رأينا في الآية الكريمة – فإنه – على الجانب الآخر توعد أهل الكفر والتمرد وأوعدهم بالعذاب في الدنيا، فقال تعالى : {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ المِيعَاد} ( الرعد : 31 )، أي : ولا يزال الكفار تنزل بهم مصيبة بسبب كفرهم، كالقتل والأسر في غزوات المسلمين , أو تنزل تلك المصيبة قريبًا من دارهم , حتى يأتي وعد الله بالنصر عليهم , إن الله لا يخلف الميعاد.( التفسير الميسر )، فالكافرون مغلوبون لا محالة، ولنقرأ قول الله تعالى : {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} ( آل عمران : 12 )، والله تعالى من الكفار منتقم، وعليهم مقتدر، قال تعالى : {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ } ( الزخرف : 41، 42 )، والله تعالى توعد الكافرون الذين يشاقون الله ورسوله ويخالفون أمرهما بالخذلان والهوان قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ( المجادلة : 5 )، وانظر كيف الله تعالى َوَعَدَ قَوْمَ لُوطٍ الصُّبْحَ، فَجَاءَهُمْ مَا وُعِدُوا فِي صُبْحِهِمْ ؛ {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ}( هود : 81 - 83 )،
* الوعد الالهي بالنصر والتمكين للمؤمنين من أهم أسباب الثبات على الحق : أن هذا الوعد الالهي بالاستخلاف في الأرض، والتمكين للدين، والأمن من الخوف للمؤمنين، يعد من أعظم أسباب الثبات على الحق الذي شرعه الله للمؤمنين، لو تأمله الناس مليا، وفقهوه حق الفقه، وأيقنوا بتحقق وعد الله تعالى يقينا لا يساوره شك ولا ريب، فالقرآن الكريم يعلمنا الأساس المتين لكل عمل أو نشاط ناجح في الحياة الدنيا إنما يتمثل في تقوى الله تعالى، والتوكل على الله والاعتماد عليه، والصدق معه، والثقة في وعده، واللجوء إليه في الشدة والرخاء، وفي البأساء والضراء، والصبر الدائم على البلاء، مهما ادلهمت الأمور، وقست الظروف، وعظمت المحن، واشتدت الفتن، فالمؤمن مأمور بالصبر الإيجابي ( لا السلبي ) (9) القائم على الثقة في الله، واستيفاء الأسباب قدر استطاعته، ولذلك ربط الله تعالى بين الأمر بالصبر ووعد الله عز وجل الحق، قال تعالى مخاطبا رسوله ومصطفاه ومن خلاله يخاطب أمته : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } ( غافر : 55 )، وقال تعالى : : {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} ( الروم : 60 )، وقال تعالى : {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} ( غافر : 77 )، وقال تعالى أيضا : وقال تعالى : {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} ( غافر : 55 )، قال شيخ الإسلام " ابن تيمية " رحمه الله حول هذه الآية : " ...... أمر الله سبحانه رسوله والمؤمنين باتباع ما أنزل إليهم وهو طاعته، وهو المقدمة الأولى، وأمر بانتظار وعده وهو المقدمة الثانية، وأمر بالاستغفار والصبر ؛ لأن العبد لابد أن يحصل له نوع تقصير وسرف يزيله الاستغفار، ولابد في انتظار الوعد من الصبر؛ فبالاستغفار تتم الطاعة، وبالصبر يتم اليقين بالوعد ؛ وقد جمع الله سبحانه بينهما في قوله : {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} ( غافر : 55 ) (10)،
وقال تعالى : { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ}( ق : 39 )، فما أحوج الأمة اليوم إلى اليقين بوعد الله، وإلى الصبر على ما تعانيه من كل قوى البغي والعدوان العالمي، وإلى العمل الجاد، والثبات على الحق، وها هو إمام أهل السنة الإمام " أحمدَ بنِ حَنْبَل " رحمه الله، حين قيل له أيامَ محنةِ خلْقِ القرآن : يا أبا عبدِ الله , أولَا تَرَى الحقَّ كيفَ ظَهرَ عليه الباطلُ ؟! فما كان منه إلا أن أجابَ قائلا : " كَلَّا , إنَّ ظُهُورَ الباطلِ على الحقِّ : أنْ تَنتقلَ القلوبُ من الهُدَى إلى الضَّلالةِ , وقُلوبُنا بَعْدُ (أي لا تزال) لازمةٌ للحقّ " (11)،
* أن حتمية وقوع وعد الله وتحققه لا تعني أنه قد لا يتأخر : : قلنا أن وعد الله متحقق لا محالة، ولا يخلف ولا يتغير ولا يتبدل، إلا أنه قد يتأخر لحكمة لا يعلمها إلا الله الحكيم العليم، والانسان عجول بطبعه يستعجل تحقق وعد الله، وتلك أيضا حقيقة سجلها القرآن، قال تعالى : {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً }( الإسراء : 11 )، وقال تعالى : {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ }( الأنبياء : 37 )، أي : خُلق الإنسان عجولا يبادر الأشياء ويستعجل وقوعها. وقد استعجلت قريش العذاب واستبطأته, فأنذرهم الله بأنه سيريهم ما يستعجلونه من العذاب, فلا يسألوا الله تعجيله وسرعته ( التفسير الميسر )، ولذلك فالانسان يتعجل النصر الموعود، وسرعان ما يتساءل إذا تكالبت عليه المحن، واشتدت الفتن، متى نصر الله ؟ وهي حقيقة سجلها القرآن الكريم أيضا، قال تعالى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ }( البقرة : 214 )، والمعنى : بل أظننتم - أيها المؤمنون - أن تدخلوا الجنة, ولمَّا يصبكم من الابتلاء مثل ما أصاب المؤمنين الذين مضوا من قبلكم : من الفقر والأمراض والخوف والرعب, وزُلزلوا بأنواع المخاوف , حتى قال رسولهم والمؤمنون معه - على سبيل الاستعجال للنصر من الله تعالى - : متى نصر الله؟ ألا إن نصر الله قريب من المؤمنين ( التفسير الميسر ) ، ولذلك فإن الوعد الإلهي قد يتأخر، زيادة في الامتحان والابتلاء للمؤمنين، والامداد والإملاء للكفار والمنافقين، ولذا جاء التأكيد في القرآن الكريم على الصبر مقرونا بإثبات الوعد، حتى لا يتزعزع الموقن عن يقينه، ولا يتزحزح المؤمن عن إيمانه، كما قال تعالى : {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} ( الروم : 60 )، وقال تعالى : {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} ( غافر : 55 )، {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} ( غافر : 77 )،
* أن الله تعالى حذرنا بشدة من وعود الشيطان التي هي مناقضة لوعةد الرحمن: أن الشيطان – كما بين القرآن الكريم – يعد الناس بخلاف وعد الرحمن سبحانه وتعالى، ولهذا حذر الله تعالى من وعد الشيطان فقال تعالى : {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} ( البقرة : 268 )، {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} ( النساء : 120 )، وبين القرآن أن الشيطان يقر ويعترف يوم القيامة بأنه قد غر من وعدهم في الدنيا وخدعهم، وأرداهم في العذاب المبين فيزيدهم ذلك حسرة على حسرتهم، وعذابا فوق العذاب، قال تعالى : {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ( إبراهيم : 22 )،
* أن العمل قرين الايمان في التصور الاسلامي : هكذا يلح القرآن الكريم على الربط الوثيق بين الإيمان والعمل، ويجعل العمل قرين الايمان ولا ينفك عنه، قال تعالى : (الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فإيمان بلا عمل لاقيمة له، تماما كما أن العمل بلا إيمان يصبح في ميزان الاسلام هباء منثورا، قال تعالى : {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً }( الفرقان : 23 )، أي : وقَدِمْنا إلى ما عملوه مِن مظاهر الخير والبر، فجعلناه باطلا مضمحلا لا ينفعهم كالهباء المنثور، وهو ما يُرى في ضوء الشمس من خفيف الغبار؛ وذلك أن العمل لا ينفع في الآخرة إلا إذا توفر في صاحبه: الإيمان بالله، والإخلاص له، والمتابعة لرسوله محمد، صلى الله عليه وسلم.( التفسير الميسر )، فلقد ذكر القرآن الكريم الإيمان وذكر معه العمل الصالح في أكثر من سبعين آية، {الذين آمنوا وعملوا الصالحات } وردَت في القرآن الكريم في أكثر من سبعين آية، بل إنّ الله سبحانه وتعالى لمْ يكْتفِ بِقَرْن العمل مع الإيمان، بل قيَّد العمل بأنَّه صالح، لأنّ هناك عملاً غير صالح، يقول " الغزالي " (12) : " ....القرآن الكريم يربط الإيمان بالعمل، ويقرن الحديث عن شئون الناس بالإيمان الواجب برب الناس... إن رباط الشريعة بالعقيدة وثيق، وارتباط العمل بالإيمان قائم، وفى عصرنا يوجد مارقون يريدون أن يجعلوا للشرائع مصدرا غير الإسلام، وللحكم أسسا غير الوحى!..
وختاما نعود فنؤكد أن عزة المسلمين، وعودة الأمة إلى سالف مجدها إنما هو مشروط بالتمسك بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتجسيد قيم الإسلام في واقع الحياة، لتكون تلك الحياة في مختلف ميادينها ومجالاتها على تنوعها وتعددها محروسة بقيم السماء،
إما إذا حاد المسلمون عن منهج الله تعالى، وتركوا كتابه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، واستبدلوه بمناهج الشرق والغرب، وأصبحوا يبتغون العزة في غيره، أضلهم الله تعالى وأذلهم وسلط عليهم شرار خلقه، كما هو الواقع اليوم، وتلك حقائق قرآنية أيضا، إقرأ إن شئت قول الله تعالى : {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى }( طه : 124 )، أي : ومن تولَّى عن ذكري الذي أذكِّره به فإن له في الحياة الأولى معيشة ضيِّقة شاقة -وإن ظهر أنه من أهل الفضل واليسار-، ويُضيَّق قبره عليه ويعذَّب فيه، ونحشره يوم القيامة أعمى عن الرؤية وعن الحجة.، واقرأ قوله تعالى : { ....وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ }( محمد : 38 )، أي : وإن تتولوا عن الإيمان بالله وامتثال أمره يهلكُّم, ويأت بقوم آخرين, ثم لا يكونوا أمثالكم في التولي عن أمر الله, بل يطيعونه ويطيعون رسوله, ويجاهدون في سبيله بأموالهم وأنفسهم،
نعم الإسلام يعلمنا أنه لا يجامل أحدا على حساب أحد، ولا يحابي أمة على حساب أمة، فهو الحكم العدل اللطيف الخبير، والله تعالى ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، فإذا استقام الناس على منهجه أعزهم، وتمسكوا بما جاءهم من عنده، أعزهم ونصرهم ومكن لهم في الأرض، وإذا أعرضوا وتولو وانحرفوا عنه وتركوه لم يبال بهم سبحانه،
ونعود فنؤكد أيضا أن التمكين كما هو مؤكد في كتاب الله إنما يكون من الله تعالى وحده :( إنا مكنا – وكذلك مكنا – ونريد أن نمن --- ونمكن لهم ) فلا يصح أن نقترح على الله أو أن نفرض علىه طريقة للتمكين، ولا توقيته، ولا كيفيته، ولا نتعجل التمكين، إن يد الله تعالى تعمل في الخفاء فلندعها تعمل بطريقتها الخاصة،
ووعد الله لهذه الأمة قائم، وهو متحقق لا محالة إذا تحققت شروطه، مهما كانت الصعاب،
- ورد أن رجلا سأل الإمام " الشافعي " رحمه الله، فقال : يا أبا عبد الله أيهما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى ؟ فقال الشافعي : لا يمكن حتى يبتلى، فإن الله ابتلى نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين فلما صبروا مكنهم 0
ونسأل الله عز وجل أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين، ويجمع قلوبهم على الحق، وأن يفقههم في دينه، وأن يصلح قادتهم ويجمعهم على الهدى ويوفقهم لتحكيم شريعته والتحاكم إليها والحذر مما خالفها إنه جواد كريم . . وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين .
***********
الهوامش والاحالات :
============
(1) – سيد قطب : " في ظلال القران "، دار الشروق، القاهرة، ط 38، 2005م، ج5، ص : 393،
(2) - سيد قطب : " في ظلال القران "، دار الشروق، القاهرة، ط 38، 2005م، ج5، ص : 393،
(3) - محمود الألوسي أبو الفضل : " روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني "، دار إحياء التراث العربي – بيروت، لبنان، ( د.ت )، ج24، ص : 400،
(4) - الشيخ محمد الطاهر بن عاشور : " التحرير والتنوير "، الطبعة التونسية، دار سحنون للنشر والتوزيع - تونس - 1997 م، ج18، ص : 287،
(5) – سيد قطب : " مرجع سبق ذكره "، ج5، ص : 394،
(6) – الطاهر ابن عاشور : " مرجع سبق ذكره "، ج18، ص ص : 287 – 288،
(7) - محمد الغزالي : " نحو تفسير موضوعي للقرآن الكريم "، دار الشروق،
القاهرة،، ط4، 2000م ، ص : 278 - 279،
(8) – سيد قطب : " مرجع سبق ذكره "، ج5، ص : 393
(9) – الصر الايجابي هو المفهوم الحقيقي للصبر في منظور الاسلام، إذ أن مفهوم الصبر القرآني هو مفهوم خاص متميز، وهو صبر آخر غير ذلك الصبر الشائع لدى عامة الناس، والذي يعرفه ويتبناه الكثير منا، صبر الرقود والسلبية، صبر العجز والكسل، صبر الشكوى والتذمر، ليس ذلك الصبر الذي يرضى به العاجز لتسكين الألم مع التشكي والضجر، ليس صبر المفعول بهم دائما، بل هو صبر الفاعلين الذين غيروا وجه العالم، ليس الصبر في مفهوم الاسلام ذلك التخدير الذي يجتر به الناس حياتهم بكل آلامها ومعاناتها ومظاهر سلبياتها، فيتعايشون به مع واقعهم المرير الذي لا يملكون تغييره، ليس الصبر الذي عناه القرآن هو الصبر المرادف للانتظار الفارغ من أي أمل، ومن أي رغبة أو عمل، كلا! الصبر القرآني هو الذي دعانا الله إليه بقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ( آل عمران :200 )، فانظر كيف أن الصبر هنا هو قرين المرابطة، وهو الذي أمرنا الله تعالى حال الشدائد بالاستعانة به على الصمود : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) ( البقرة :153 )، إنه صبر الهداية والإبصار عند حلوك الظلمات، واشتداد الأزمات، وأصحابه هم المبشرون ببلوغ الغايات، وعليهم تتنزل الرحمات، قال تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ) ( البقرة :155-157 )، إنه صبر الانتصار على المؤامرات، ودفع الكيد والمشكلات : (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) ( آل عمران :120 )، هذا هو الصبر بمفهوم القرآن، هو نبتة التحدي الإيجابي الفاعل في وسط صحراء القحط السلبية، وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم، ومن معه من الصحابة الكرام رضي الله عنهم يفهمون الصبر، فقد كان الصبر وسيلةً مهمة، وعنصرا أساسيا في التفاعل بين الإنسان والمجتمع، كان الصبر هو صبر المواجهة، صبر التحدي، صبر التغيير، صبر أولي العزم من الرسل الذين غيروا وكافحوا وجاهدوا، وتركوا آثارا لا تنسى على وجه الحضارة الإنسانية صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، إنه صبر الفعل والمفاعلة والتفعيل، الصبر على ذلك كله، وفي أثناء ذلك كله، وبعد ذلك كله، إنه صبر البناء والتشييد، فالإسلام لا ينفك يلقن أبناءه يوما بعد يوم روح الثبات على الدين، وآداب المغالبة والمدافعة، والصبر على الشدائد، ومقابلة الفتن والبلايا بروح الراضي بقضاء ربه، الواثق بإنجاز وعده ؛ محتملا مع ذلك كل نَصَب، مستسيغا في سبيل الله كل تعب، وانظر إلى جلال قول الله تعالى في وصف سبيل النجاة للإنسان من الخسران المبين، قال تعالى : وَالْعَصْرِ{1} إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ{2} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ{3} ( العصر )، فما أروع هؤلاء حين تتزاحم الأزمات، وتشتد الأحداث، ويضيق الخناق، ويسبح الناس بين بحر من الهموم والظلمات، والمصائب والملمات! فيشعل هؤلاء شمع التواصي بالصبر، والصمود على الحق! وليس أي صبر يعنونه سوى الصبر الإيجابي المثمر، به يدفعون الأزمات، وبه يواجهون الأحداث، وكلهم أمل في الله، وثقة بالله، وتوكل على الله، ورجاء في الله، أنظر : الخضر بن حليس : " صناعة الصبر الإيجابي "، المصدر على الانترنت :
www.khutabaa.com/index.cfm?method=home.khdownload&kh...
(10) - الامام العلامة ابن القيم : " إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان "، تحقيق : محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط2، 1395هـ - 1975م، ج2، ص : 187،
(11) - محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي : " سير أعلام النبلاء "، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، 1422هـ / 2001م، ج11، ص : 238،
(12) - محمد الغزالي : " نحو تفسير موضوعي للقرآن الكريم "، دار الشروق، القاهرة،، ط4، 2000م ، ص : 268،
************************
3-03-2016
|
|
|
|
|
|
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي |
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته |
|
|
أحدث الردود |
|
|
|
|
|