تأملات قرآنية - 2- بين قوله تعالى " إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء " وقوله " فأمرنا مترفيها ففسقوا فيها "
د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6425
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد ألا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله ، صلى الله وسلم وبارك وعظم وشرف وكرم على هذا النبي الأمين ، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ،
أما بعد :
- قال تعالى في سورة الأعراف : {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }( الأعراف : 28 ) ، والمعنى أن الكفار إذا أتوا قبيحًا من الفعل اعتذروا عن فعله بأنه مما ورثوه عن آبائهم , وأنه مما أمر الله به ، ثم يأتي التوجيه الإلهي الحاسم والحازم للرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : إن الله تعالى لا يأمر عباده بقبائح الأفعال ومساوئها وحاشاه أن يفعل ذلك , أتقولون على الله - أيها المشركون - ما لا تعلمون كذبًا وافتراءً؟
الإشارة هنا إلى ما كان يفعله المشركون العرب في الجاهلية من كشف عوراتهم عند الطواف حول الكعبة ، أي كانوا يطوفون بالبيت عراة تماما ، وكان حجتهم في ذلك ألا يطوفون في ثياب عصوا الله تعالى فيها ، ولذلك قيل أن هذا هو سبب النزول لهذه الآية ، فالعرب الذين كانوا سبب نزول هذه الآية إنما كانت فاحشتهم التي قالوا فيها ما قالوا ، هي طوافهم بالبيت عراة لاعتقادهم أن ثيابهم التي عصوا الله فيها لا تصلح أن يعبد الله فيها فكانوا ينزهون عبادة الله عن ملامسة ثيابهم فيقعون في الفاحشة التي هي كشف عوراتهم ، فقولهم والله أمرنا بها يقتضي انهم متدينون بها يرونها عبادة وطاعة كما كان مشركو العرب يطوفون بالبيت عراة ويقولون لا نطوف في الثياب التي عصينا الله فيها إلا الحمس ( قريش ) وحلفاؤها فكانوا يطوفون في ثيابهم وكان غيرهم قد يطوف في ثياب احمسى أن حصل له ذلك ، وإلا طاف عريانا حتى كانت المرأة تطوف عريانة وربما سترت فرجها بيدها وتقول اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله وكان من طاف في ثيابه من الحمس ألقاها فسميت لقى وحرمت عليه وكانوا أيضا في الإحرام لا يأكلون من الدهن الذي في الأنعام ،
إن الفحشاء قبيحة منكرة تنكرها القلوب بفطرتها والله لا يأمر بمنكر وهذا يقتضي أن الأفعال القبيحة السيئة تكون على صفات تمنع معها إن الله يأمر بها ،
وهكذا نفهم من تلك الآية : أن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء ، ولا يأمر بالمنكر ، ولا يرضى أن يكون ما حرمه الله ، مما يقرب إليه ويرضاه ، ولا يأمر بما هو فاحشة في العقول والفطر ، كالكفر والشرك والنفاق والفسق والزنا ....إلخ ،
* إشكال وجوابه :
والمتأمل لقوله تعالى في هذه الآية : {إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء }( الأعراف ) قد يتوهم خلاف ما دلت عليه من ظاهر آية أخرى وهي قوله تعالى في سورة الإسراء : {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}( الإسراء : 16 ) ، ولذلك قد يتساءل من يتوهم هذا الخلاف : كيف نوفق بين قوله تعالى : { إن الله لا يأمر بالفحشاء }، وقوله تعالى : { أمرنا مترفيها ففسقوا فيها } ، أي كيف لا يأمر بالفحشاء ، ويأمر المترفين بالفسق ، ففي الآية الأولى نفي أن يأمر الله تعالى بالفحشاء ، وظاهر الثانية أن الله تعالى يأمر بما هو فسق .
قال بعض أهل العلم : أن الجمع بينهما يكون من ثلاثة أوجه (1) :
الوجه الأول : وهو أظهرها أن معنى قوله : {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} أي أمرناهم بطاعة الله تعالى والتزام أوامره ، وتصديق الرسل فيما جاءوا به من عند الله ، ففسقوا أي بتكذيب الرسل ومعصية الله تعالى فلا إشكال في الآية أصلا على هذا القول ،
الوجه الثاني : أن الأمر المنفي في قوله : {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} ، هو الأمر شرعي الديني ، ومعلوم أن الله تعالى لا يأمر شرعا بالفحشاء لقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ( النحل :90 ) ، فالله تعالى لا يأمر بالفحشاء شرعا ، ولكن قضاء ، لاستحالة أن يجري في ملكه مالا يريد ، أما الأمر في قوله تعالى : {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} هو الأمر الكوني القدري لا أمر شرعي ، والله تعالى يأمر " كونا وقدرا " بما شاء حسب ما تقتضيه حكمته جل جلاله ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } ( يّس :82 ) ، وقوله : {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}، ومن ثم فمعنى قوله { أمرنا مترفيها } أي قدرنا عليهم الفسق بمشيئتنا ، ، فظهر أن الأمر المنفي غير الأمر المثبت ، فلا تعارض ،
الوجه الثالث : أن معنى {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا}: أي كثرناهم ( أي بكثرة التناسل ) حتى بطروا النعمة ففسقوا في الأرض ، ويدل لهذا المعنى الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد مرفوعا من حديث سويد بن هبيرة رضي الله عنه : " خير مال امرئ مهرة مأمورة ، أو سكة مأبورة " فقوله مأمورة أي كثيرة النسل والنتاج والتوالد وهي محل الشاهد ،
ومعنى " سكة مأبورة " أي طريقة مصطفة من النخل مؤبرة ،
وثمة من يقول أمّرناهم ( بتشديد الميم المنصوبة ) أي أمرناهم وملّكناهم وأردنا منهم الصلاح فأفسدوا وفسقوا فيها ،
* بين الأمر الكوني القدري ، والأمر الشرعي الديني :
جاء في كتاب (شرح مقدمة القيروانى ) (2)
أن الأمر أمران : الأمر الأول : أمر ديني شرعي ، والأمر الثاني : أمر كوني قدري ، الأمر الديني الشرعي متعلق بمحاب الله تعالى ومراضيه ، إذن كل ما يحبه الله تعالى ويرضاه ويأمر به إذن هذا أمر ديني شرعي كقول الله - عز وجل- { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ، يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى } (النحل : 90 ) ، إذن هذه المأمورات متعلقة بمحاب الله تعالى ومراضيه فالله تعالى يحب العدل ويحب الإحسان ويحب صلة الأرحام ، وإيتاء ذي القربى يحب ذلك ، إذن هذه المحبوبات متعلقة بالأمر الشرعي ولذلك أمر الله تعالى بها والواجب على المسلم المكلف الأريب النجيب العاقل أن يجتهد في امتثال هذه المأمورات الشرعية يطبق هذه المأمورات الشرعية فلا يمكن أبداً أن تزعم أنك تحب الله - عز وجل - ولا تطيعه في محابه ومراضيه لا يمكن أبداً ،أي أن الله - عز وجل – يحب العدل ولا تكون عادلاً ولاتتصف بصفة العدل؟!! يحب الإحسان ولا تكون محسناً إلى نفسك وإلى زوجك وأولادك وعشيرتك؟!! لا يمكن ، ويحب أن تكون وصالاً للرحم وإيتاء ذي القربى ثم تكون قاطعاً لذلك؟!! إذن الواجب على المكلف أن يمتثل الأمر الشرعي لأن امتثاله هذا الأمر الشرعي يجلب عليه الخير والنعمة والرضا من الله سبحانه ،
أما الأمر الثاني : الأمر الكوني القدري : وهذا متعلق بسلطان الله - عز وجل - وقهره لخلقه وجلاله وملكه لهذا الكون فلا يكون شيء في هذا الكون متحركاً فيسكن أو ساكناً فيتحرك أو قائماً فيرقد أو راقداً فيقوم لا يوجد شيء في هذا الكون إلا بإذن الله - عز وجل – إلا بمشيئة الله - عز وجل - فهذا الكون كله متعلق بأمر الله - عز وجل - يستوي في ذلك المسلم والكافر، المؤمن والمشرك ، الصالح والطالح ، العربي والعجمي ، الإنسي والجني ، الوحش والسبع ، البحري والبري، الجماد ، الأوراق ، كل ما في هذا الكون إنما يتحرك ويكون بإذن الله - عز وجل - وهذا قوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } ( يس : 82 ) ،
ففي الأمر الكوني القدري يقول الحق تبارك وتعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } ، وقوله : {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ }( غافر : 68 ) ، وقوله تعالى : {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ }( القمر50 ) ، وقال تعالى : { ...حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }( يونس : 24 ) ،
وأما الأمر الديني الشرعي فكقوله تعالى : {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً }( النساء : 58 ) ،
وفيما يتعلق بالموضوع الذي نحن بصدده هنا فلقد مثل الإمام العلامة ابن القيم في كتابه " شفاء العليل " (3) للأمر الكوني
بهذه الآية الكريمة : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا }( الإسراء ) ، فقال رحمه الله : " فهذا أمر تقديري كوني ، لا أمر ديني شرعي ؛ فإن الله لا يأمر بالفحشاء ، والمعنى : قضينا ذلك وقدرناه ، وقالت طائفة : بل هو أمر ديني ، والمعنى : أمرناهم بالطاعة ، فخالفوها ، ففسقوا ، والقول الأول أرجح ؛ لوجوه نذكرها فيما يلي :
أحدها : أن الإضمار على خلاف الأصل ، فلا يصار إليه إلا إذا لم يمكن تصحيح الكلام بدونه ،
الثاني : أن ذلك يستلزم إضمارين : أحدهما : أمرناهم بطاعتنا ، والثاني : فخالفونا أو عصونا . . . ونحو ذلك ،
الثالث : أن ما بعد الفاء في مثل هذا التركيب هو المأمور به نفسه ؛ كقولك : أمرته ففعل ، وأمرته فقام ، وأمرته فركب ؛ لا يفهم المخاطب غير هذا ،
الرابع : أنه سبحانه جعل سبب هلاك القرية أمره المذكور، ومن المعلوم أن أمره بالطاعة والتوحيد لا يصلح أن يكون سبب الهلاك ، بل هو سببا للنجاة والفوز، فإن قيل : أمره بالطاعة مع الفسق هو سبب الهلاك ، قيل : هذا يبطل بـ :
الوجه الخامس : وهو أن هذا الأمر لا يختص بالمترفين ، بل هو سبحانه يأمر بطاعته واتباع رسله المترفين وغيرهم ، فلا يصح تخصيص الأمر بالطاعة بالمترفين " انتهى ، وقدم الإمام ابن كثير هذا القول على غيره ، واقتصر عليه ابن سعدي ،
وقال بعضهم أن مما يؤيد هذا ( أي ما ذهب إلية ابن القيم ) أن الأمر بالطاعة ليس المقصود منه أن يفسق المأمور؛ ليحق عليه الهلاك ، وإنما المقصود منه سعادة المأمور ونجاته من الهلاك ،
وفي تفسيره لقول الله تعالى :{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } (الأنعام : 123 ) ، قال الشعراوي (4) : " أمر الله " نجد أن أمر الله يتمثل في التكوينات الطبيعية الكونية ولا يوجد لأحد قدرة على مخالفة الله في ذلك ، فهو القائل : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ، ويتمثل أيضاً أمر الله في التشريعات ، وللبشر الذين نزلت لهم هذه التشريعات أن يختاروا بين الطاعة أو العصيان ، وسبحانه القائل عن الأمر بالتشريع : { وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله }
وحين يقول الحق : { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } ، فسبحانه لا يهلك هذه القرية ظلماً ، وإنما يرسل إليها المنهج ، فإن أطاعوا فأهلاً وسهلاً ، وإن عصوا فلابد لهم من العقاب بالدمار ، وهكذا نرى أن العلماء الذين ظنوا أن الفسق مترتب على الأمر من الله لم يلتفتوا إلى أن ورود الأمر في القرآن الكريم جاء على لونين : أولا : أمر التكوين بالقهريات فلا يستطيع المأمور أن يتخلف عنه ، ويمثل الأمر القهري قوله الحق : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ( يس : 82 ) ، فالأمر جاهز في عالم الأزل ليبرز حين يشاء الحق ،
والأمر الثاني : هو الأمر التشريعي وهو صالح لأن يختار المكلف بين أن يطيع أو يعصي ، وفي هذا الإِطار نفهم قوله الحق : { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } ، فلا تقل : إن الله يأمر بالفسق ؛ فالحق قد أمر المؤمنين بالمنهج لأنه سبحانه لا يأمر بالفحشاء ، بل جاء الأمر لكل البشر أن يعبدوا الله مخلصين له الدين ، لكن كبار أهل هذه القرية أخذوا البديل للطاعة وهو الفسق والمعصية ، فلما أمرهم ففسقوا ماذا يصنع بهم؟ ، هو سبحانه يدمرهم تدميرا فإن كان في الكونيات فلا أحد من خلق الله مكلف في الكونيات ، إنما أمره الثاني في اتباع المنهج فلنا أن نفهم أنه الاختيار ، وهكذا نعلم ونفهم معنى هذه الآية لتلتقي مع الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها : أي وإذا أردنا أن نهلك قرية أنزلنا منهجاً فأكابرها كانوا أسوة سيئة ففسقوا فيها بعدم إطاعة منهج الله فحق عليها القول فدمرناها تدميرا . وكذلك - أيضاً - نفهم قوله الحق : { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } لأن المكر إنما يريد به الماكر أن يحقق شيئاً من طريق ملتوٍ لأنه ضعيف لا يمكن أن يواجه الحقائق ، وهذه الحقائق تستقبلها الفطرة السليمة ، وهو يريد تزييف المسألة على هذه الفطرة لذلك يلتوي ، ولمثل هذا الماكر نقول : أنت تريد أن تحقق لنفسك خيراً عاجلاً وشهوة موقوتة ، ولكنك إن استحضرت العقوبة التي تنشأ من هذا الأمر بالنسبة لك ، وكذلك عقوبتك على أنك أضللت الآخرين لرأيت كيف يأتي الشر ،{ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } ( الأنعام : 123 ) ، أي لا يعلمون ، لأنهم لا يوازنون الأمور بدقة تؤدي إلى النفع الحقيقي ،
قال الشعراوي رحمه الله (9) : " الفاحشة مأخوذة من التفحش أي التزايد في القبح ، ولذلك صرفها بعض العلماء إلى لون خاص من الذنوب ، وهو الزنا ، لأن هذا تزيد في القبح ، فكل معصية يرتكبها الإنسان تنتهي بأثرها ، لكن الزنا يخلف آثاراً ، فإمّا أن يوأد المولود ، وإما أن تجهض المرأة ، وإما أن تلد طفلها وتلقيه بعيداً ، ويعيش طريداً في المجتمع لا يجد مسئولاً عنه ، وهكذا تصبح المسألة ممتدة امتداداً أكثر من أي معصية أخرى ، وتصنع هذه المعصية الشك في المجتمع ، ولنا أن نتصور إن إنساناً يشك في أن من ينسبون إليه ويحملون اسمه ليسوا من صلبه ، وهذه بلوى كبيرة للغاية ، والذين قالوا : إن الفاحشة المقصود بها الزنا نظروا إلى قول الله سبحانه : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } ( الإسراء : 32 ) ، أو الفاحشة هي ما فيه حد ، أو الفاحشة هي الكبائر ، ونحن نأخذها على أنها التزيد في القبح على أي لون من الألوان ، فما هي الفاحشة المقصودة هنا؟ . إنها الفواحش التي تقدمت في قوله : { مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ . . . } ( المائدة : 103 ) ، وكذلك ما جاء في قوله تعالى : { وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ . . . } ( الأنعام : 137 ) ، وكذلك في قوله الحق سبحانه : { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً فَقَالُواْ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا . . . } ( الأنعام : 136 ) ،
****************
الهوامش والإحالات :
===========
(1) - محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي : " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، مجمع الفقه الإسلامي بجدة - دار عالم الفوائد ، 1326هـ ، ط1 ، ج1 ، س : 39 ،
(2) – أحمد النقيب : " شرح مقدمة القيروانى " ، المصدر : الموقع الأليكتروني للمكتبة الشاملة ، http://shamela.ws/
(3) - محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله : " شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل " ، تحقيق : محمد بدر الدين أبو فراس النعساني الحلبي ، دار الفكر - بيروت ، 1398 – 1978م ، ص : 466 ،
(4) - محمد متولي الشعراوي : " تفسير الشعراوي " ، مطابع أخبار اليوم ، القاهرة ، تفسير الآية ،
(5) - الرَّاغِب الأصفهاني : " مفردات ألفاظ القرآن " ، تحقيق : صفوان عدنان داوودي ، دار القلم ، دمشق ، الدار الشامية، بيروت، الطبعة الثانية 1418هـ - 1997م ، ص:609،مادَّةُ " فحش " ،
(6) – أنظر :
- بدر الدين أحمد العيني (الحنفي) : " عمدة القاري شرح صحيح البخاري " ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، 2010م ، ج22 ، ص : 116 ،
- أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي : " فتح الباري بشرح صحيح البخاري " ، دار المعرفة ، بيروت ، دار المعرفة - بيروت ، 1379هـ ، ج 1 ، 453 ،
(7)- الإمام أبي حامد الغزالي : " إحياء علوم الدين " ، دار الشعب ، القاهرة ، كتاب الشعب ، ( د.ت ) ، ج3 ، ص : 118 ،
(8) – نفس المرجع السابق : ج3 ، ص : 119 ،
(9) – محمد متولي الشعراوي : مرجع سبق ذكره ،
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: