تأملات قرآنية - 1 – كيف اجتمع في القرآن نفي السؤال يوم القيامة واثباته معا
د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6676
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين ، سبحانه سبحانه ، الأمر أمره ، والحكم حكمه ، والقضاء قضاؤه ، لا معقب لحكم ولا راد لقضائه ، له الحكم وإليه ترجعون ، سبحانه سبحانه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا وعظيمنا محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه الغر الميامين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
وبعـــــــد :
دعانا القرآن إلى النظر والتدبر في آياته الكريمة ، قال تعالى : {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }( النساء : 82 ) ، وقال في موضع آخر : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }( محمد : 24 ) ، وعملا بهذا التوجيه الإلهي الكريم نقف أمام سؤال هام مؤداه : كيف جمع القرآن بين النفي والإثبات للسؤال يوم القيامة ، وللإجابة على هذا السؤال علينا أن ننظر إلى أقوال أهل العلم فنقول وبالله التوفيق :
المتدبر للقرآن الكريم ، والمتوقف عند آياته يرى أن ثمة طائفتين من الآيات الكريمة جاءت في الكتاب الكريم ، فيما يتعلق بالسؤال عن الأعمال صالحها وسيئها ، وخيرها وشرها ، يوم القيامة ،
- الطائفة الأولى : من الآيات تثبت السؤال للعباد من قبل الله عز وجل يوم القيامة ، أي أنهم سيسألون عن أعمالهم وعما قدمت أيديهم ،
- أما الطائفة الثانية من الآيات فإنها تنفي السؤال ولا تثبته ،
وهذا أمر يمثل إشكالا يحتاج إلى تدبر وفهم وتدقيق وإيضاح ، ولذلك اهتم أهل العلم من هذه الأمة سلفا وخلفا بتلك القضية لبيانها وإيضاحها ،
* آيات تنفي السؤال يوم القيامة :
من الآيات التي تنفي السؤال قول الله تعالى :{ فيومئذٍ لا يُسْألُ عن ذنبه إنسٌ ولا جانٌّ } ( الرحمن : 39 ) ، والمعنى : ففي ذلك اليوم لا تسأل الملائكة المجرمين من الإنس والجن عن ذنوبهم ، وقوله تعالى : { وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ }( القصص : 78 ) ، والمعنى : ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون ، لعلم الله تعالى بها , إنما يُسْألون سؤال توبيخ وتقرير, ويعاقبهم الله على ما علمه منهم ،
وقوله تعالى : {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ }( القصص : 78 ) ، والمعنى ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون ، لعلم الله تعالى بها , إنما يُسْألون سؤال توبيخ وتقرير, ويعاقبهم الله على ما علمه منهم ، وكذلك قوله تعالى : {فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ }( الرحمن : 39 ) ،
* آيات تثبت السؤال يوم القيامة :
- قوله تعالى : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ }( الأعراف : 6 ) ، فهذه الآية الكريمة تدل على أن الله يسأل جميع الناس يوم القيامة سواء في ذلك المرسلين ، أوالمرسل إليهم ، أما المرسلون فيسألون عن الإبلاغ ، أي عن تبليغهم لرسالات ربهم ، وأما الذين أرسل إليهم : فستسأل الأمم يوم القيامة عن إجابتهم الرسل وعملهم فيما بلغهم ، أي ماذا أجبتم رسلنا إليكم ، ومعنى هذا أن الجميع سيسألون يوم القيامة ، ونظيرها في القرآن كثير كقوله تعالى :
- قول الله تعالى : {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ }( العنكبوت : 13 ) ، أي وليُسألُنَّ يوم القيامة عما كانوا يختلقونه من الأكاذيب ،
- وقوله أيضا : {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً }( الأحزاب : 8 ) ، أي أخذ الله ذلك العهد من أولئك الرسل ، ليسأل المرسلين عمَّا أجابتهم به أممهم , فيجزي الله المؤمنين الجنة, وأعد للكافرين يوم القيامة عذابًا شديدًا في جهنم ،
وقوله تعالى :{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ }( الزخرف : 19 ) ،
فجميع هذه الآيات تؤكد أن الله تعالى يسأل جميع الناس يوم القيامة ، وهذا واضح ومعلوم ،
فكيف نجمع بين هذين القسمين من الآيات مع ما يبدوا بينهما – ظاهرا – من تناقض وتعارض واختلاف ؟ وحاش للقرآن أن يكون بين آياته ثمة تعارض أو اختلاف ،
قال ( الشنقيطي ) يرحمه الله ، في كتابه " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " (1) ، " والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :
الأول : وهو أوجهها لدلالة القرآن عليه ، وهو أن السؤال قسمان : سؤال توبيخ وتقريع , وأداته غالبا ( لم ) ، وسؤال استخبار واستعلام ، وأداته غالبا ( هل ) فالمثبت هو سؤال التوبيخ والتقريع , والمنفي هو سؤال : الاستخبار والاستعلام ، وجه دلالة القرآن على هذا أن سؤاله لهم المنصوص في القرآن كله توبيخ وتقريع كقوله تعالى : {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ , مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ}, وكقوله جل شأنه : {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ}، وكقوله جل شأنه : {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}، وكقوله عز وجل : {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}، إلى غير ذلك من الآيات ، وسؤال الله للرسل ماذا أجبتم لتوبيخ الذين كذبوهم ، كسؤال الموءودة بأي ذنب قتلت لتوبيخ قاتلها ،
الوجه الثاني : أن في القيامة مواقف متعددة ، ففي بعضها يسألون ، وفي بعضها لا يسألون ،
الوجه الثالث: هو ما ذكره الحليمي من أن إثبات السؤال محمول على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل ، وعدم السؤال محمول على ما يستلزمه الإقرار بالنبوات من شرائع الدين وفروعه ، ويدل لهذا قوله تعالى: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} والعلم عند الله تعالى ،
وقال أيضا في كتاب ( أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ) (2) ، " أن السؤال المنفي في الآيات المذكورة ، أخص من السؤال المثبت فيها ، لأن السؤال المنفي فيها مقيد بكونه سؤالاً عن ذنوب خاصة ، فإنه قال : { وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} ، فخصه بكونه عن الذنوب ، وقال : {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ}، فخصه بذلك أيضاً ، فيتضح من ذلك أن سؤال الرسل والموءودة مثلاً ليس عن ذنب فعلوه فلا مانع من وقوعه ، لأن المنفي خصوص السؤال عن ذنب ، ويزيد ذلك إيضاحاً قوله تعالى : { لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} ( الأحزاب : 8 ) ، وقوله بعد سؤاله لعيسى المذكور في قوله : {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ ..... }( المائدة : 116 ) ، {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} ( المائدة : 119 ) ، والسؤال عن الذنوب المنفي في الآيات المراد به سؤال الاستخبار والاستعلام ، لأنه جل وعلا محيط علمه بكل شيء ، ولا ينافي نفي هذا النوع من السؤال ثبوت نوع آخر منه هو سؤال التوبيخ والتقريع ، لأنه نوع من أنواع العذاب ، ويدل لهذا أن سؤال الله للكفار في القرآن كله توبيخ وتقريع كقوله تعالى : {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} ( الصافات : 24 – 25 ) ، وقوله: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} ( الطور : 15 ) ، إلى غير ذلك من الآيات ،
والخلاصة التي نخرج بها مما سبق أن السؤال المنفي غير السؤال المثبت ، فالسؤال المنفي عن الذنوب ، والله تعالى يعلمها ، ولذلك فالمراد به سؤال الاستخبار والاستعلام ، أما السؤال المثبت فهو سؤال ليس عن ذنب فعلوه ، كما أن السؤال المثبت هو سؤال تقريع وتوبيخ ، وبهذا فلا إشكال ،
والحمد لله رب العالمين ،
***************
الهوامش :
======
(1) - محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي : " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، مجمع الفقه الإسلامي بجدة - دار عالم الفوائد ، 1326هـ ، ط1 ، ص : 15-16 ،
(2) - محمد الأمين الشنقيطي : " أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن " ، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ، الرياض ، 1983م ، ج2 ، ص : 7 ،
وقال بعض العلماء في معرض الإجابة عن هذا السؤال " أن في القيامة مواطن يُسأل فيها ،ومواطن أخرى لا يُسأل فيها "،
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: