يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الحمد لله والصّلاة والسّلام على رَسول الله صلى الله عليه وسلم
أعود مرة أخرى إلى الحالة التي تمر بها الحركة الإسلامية تحت قياداتها الحالية، فهي على الرغم من مواقف أبطالها، قصة اليوم، والغد. وأبطالها، شاؤوا أم أبوا، مسؤولون عما ستؤول اليه حالُ مصر، في المستقبل القريب.
لقد قدّم شعب مصر الفرصة للإسلاميين على طبقٍ من ذهب، ودفع عَددٌ من أبنائه دمَهم ثمناً لتأمين هذه الفرصة، يفتح بها باباً كان موصدا، ويمنح فرصة كانت تائهة.
لا أدرى ما هذا التردّد والتخَبُط الذي يسود مواقف وقرارات قادة الحركة الإسلامية، وأقصد تحديداً الموقف الذي يتخذونه من الأحداث الجارية على مسرح السياسة المصرية. الإخوان يعلنون وقوفهم في جانب العسكر، وأن المجلس العسكري خطٌ أحمر، وضرورة الحفاظ على الإستقرار، وما إلى ذلك، مثلهم مثل السلفيين في هذا الموقف. ثم إذا بالإخوان يُغيرون موقفهم، ويطلقون تحذيراً للعسكر، إنهم على إستعداد لتقديم شهداء جُدد (يعلم الله أنّ الشعب في عمومه هو من قدّم شهداءه في 28 يناير لا الإخوان تحديداً)، وأنهم لن يسمحوا بدولة علمانية، حسب ما يعتبرونه حدوداً فاصلة بين الدولة العلمانية والدولة الإسلامية، وهو الأمر الذي حَمدناه لهم مؤخراً. وإن كنا لا ندرى لماذا لم يستوعبوا هذا الأمر، أعنى أمر موقف العسكر، من الوهلة الأولى. ثم إذا بهم، في نفس الوقت، يرفضون الخروج في تظاهراتٍ تقف في وجه المُمارسات القمعية التي يزاولها المجلس العسكريّ، الذي يضادّون سياساته في عملية الإنتخابات والتسويف والترويج للعلمانية!! تناقضٌ واضحٌ لا ندرى له سَبباً مقنعاً. وهذا الموقف من الخروج في وجه العسكر، ولو سلمياً، يتفقون فيه مع السلفيين، كما أعلن متحدث السلفيين عبد المنعم الشحات، والشيخ محمد عبد المقصود، رغم مطالبتهم بالدولة الإسلامية، على منهج نحسبه أقرب للحق من إخواننا الإخوان.
ولعل ما رأيناه من إستقبال الإخوان لرجب أردوغان، رئيس الوزراء التركيّ، مع العلم بطبيعة دولته العلمانية، هو أدلّ دليل على "عدم دقة" قراءة الإخوان للأحداث والأشخاص والأفكار، على السواء. فما كان ينبغي أن يقع مثل الإخوان في مثل هذه الورطة، التي قد حذرنا منها من قبل في حوارنا مع إسلام أون لاين، حيث قلت بالحرف الواحد " لكن ما أريد إضافته من ملاحظتي الخاصة وهي أن لا يعلق العرب أو المسلمون أملاً كبيراً على هذا الدور في القريب العاجل، إذ إن العلمانية اللادينية لا زالت هي المؤثر الأول في السياسة التركية، ولا يزال الدور التركيّ محكوماً بعوامل أخرى عديدة مثل رغبتها في المشاركة في الإتحاد الأوروبي، وهو ما يجعل تحالفها مع "إسرائيل" له قوة أحسبها أكبر من النزعة الإسلامية الفردية لدى رؤساء حكومتها والتي لا تمثل في حقيقة الأمر سياسة يمكن للعرب الاعتماد عليها" (1)، ومن ثم فإن التحليل، ثم التهليل، الإخوانيّ لأردوغان لم يقع في محله.
(1) http://www.tariqabdelhaleem.com/new/Artical-435.
المُحيّر في الأمر، أن هؤلاء القادة، أنار الله بَصائرنا وبصائرهم، لا يدركون أنّ الشّخصية، الفردية أو الإعتبارية، لا تتجزّأ في مواقفها. فالمَجلس العَسكريّ، الذي يتلاعَبُ بترك أحداث 9 سبتمبر تقعُ ليعيد قانون الطوارئ أشدّ ما كان، والذي لا يُقدم على محاكمة مبارك، ولو صورياً، إلا تحت تهديد ثورة شعبية عارمة، ويترك الفاسدين في مواقعهم في الإعلام، والجامعات، والداخلية، ويغلق الفضائيات، ويمنع إصدار تصريحات للقنوات، ويعين السلميّ لوضع المبادئ فوق القرآنية، ويُصرّح مسؤولوه بأنهم لن يَسمحوا بقيام دولة إسلامية، ويترك الأمن متفلتاً قصداً، للتمكين من إدارة الإنتخابات لصالح مرشحيهم من فلول الوطنيّ، هذا المجلس لا يمكن أن يدير إنتهابات نزيهة شفافة كما يتمنون، فهذا من المُستحيلات العقلية.
ومشكلة القيادات الإخوانية إنها لا ترى إلا هدفاً واحداً امامها، وهو إجراء الإنتخابات. ومشكلة القيادات السّلفية أنهم لا يرون إلا هدف إصدار دستورٍ إسلاميّ، وكلاهما على حقٌ، بإعتبار الهدف، وعلى باطلٍ بإعتبار الوسيلة. فإن التنكّر للحريات العامة، وترك الفساد، وتشجيع الإنفلات الأمنيّ وتلكؤ الشرطة، هي كلها دلالات لا تُنكر على نية القائمين على الحكم اليوم . هى كلها مؤشرات مؤكدة على أن هذا الهدف لن يتحقق، وأن الخطوات اللازمة لتحقيقه يحاربها المجلس واحدة تلو الأخرى، بكل وضوح وبلا مواربة.
الخروج في تظاهرات "سلمية" للوقوف في وجه قانون الطوارئ وقمع الحريات وتخريبُ الإعلام، والمُحاكمات العسكرية للمدنيين، وغير ذلك مما هو أخبثُ من مُمارسات نظام مبارك، ليس إلا تأميناً لتحقيق الهدفين ذاتهما، اللذين يسعى الإخوان والسلفيون لتحقيقهما، الإنتخابات النزيهة والدستور الشرعيّ. إن هذه الأهداف الجزئية تصب كلها في صالح الأهداف النهائية. ولا يمكن، إلا لمن فقد قدرته على التمييز، أن يعتقد أن من يمارس هذه الخطوات المضادة للثورة، سيدور على عقبيه فجأة 180 درجة، ليسمح بإنتخابات نزيهة ويمرر دستوراً إسلامياً؟؟!!! هذا لا يكون في عالم الواقع الذي نعيشه ونعرفه.
إن محاولات تجنب المواجهة مع المجلس العسكريّ لا بأس بها، في حدود ما لا يضرُ أهداف الثورة وأمانيّ الشعب الذي ضحى في سبيلها. لكن أن يتنكر هؤلاء القادة لكل دعوة تطالب بالوقوف في وجه المجلس العسكريّ لأجل الحرية أو ضد الإستبداد، هو خيانة للأهداف المعلنة ذاتها، التي يردد هؤلاء القادة أنهم يَسعون إلى تحقيقها. وإن كانت هذه المحاولات هي في إطار حمايتهم الشخصية من التعرض للإعتقال، فإن الإعتقال قادمٌ لا محالة بعد أن يضع المجلس العسكريّ اللمسات الأخيرة على شكل الدولة، وعسكرتها.
ومما يُحزن، ويؤكد ما ذهبنا اليه في سطحية الفكر السياسيّ الإسلاميّ، خاصّة السلفيّ، ما أعلنه حزب "النور" من عدم الإشتراك في أية تظاهرات قادمة! هكذا، مرة واحدة! وقد ذكّرني ذلك بتكتيك الخائبين من أهل منظمة فتح الفلسطينية، حين كانوا يعلنون، بعد كلِّ عدوان صهيونيّ، أن "مهما فعلت إسرائيل، فلن نتزحزح عن خَيار السلام!" أي والله... هو نفس المنطلق "فمٌ واسعٌ، بلا أنياب!" ولعلهم لم يعودوا إلى مسألة طاعة ولي الأمر من العسكر! فالرسالة التي يُرسلها السلفيون اليوم للعسكر أن "إفعلوا ما شئتم بمصر، فلن نتنازل عن خيار القعود خلف الصفوف"! فاليوم، إذا فغر هذا الجسد الضخم فاه، لم ير فيه أحدٌ ناب، ومتى أمْلى أهتَمُ الفم رأياً، أو أمضى مقصوفُ المِخلب قراراً؟ ولمصلحة من يُعطى العسكر شكاً على بياض، أنه في مأمن من غضب هذا الكمّ من السباب، بل ومن مجرد إعتراضهم السلميّ؟!
يا أهل حزب "النور"، نصيحة مُحبٍ مُشفق، أن إتخذوا لأنفسكم مستشارين من ذوى الحِنكة السّياسية والنظرة الشرعية، فلستم والله أهلا لها، ولا عالمين بطرقها. والعلم بالأسانيد والمسانيد لا يأتي تلقائياً بفهم الواقع وخبرة التعامل معه. ولتأخُذْكم الرحمة بالجَمْع الذي تُجَرجِرونه من ورائكم، تجرِّدونه من قوته، و"تقصقصون ريشه" كما يقال، وهم يتّبعوكم على ثقةٍ في علمكم الشرعيّ، لا لفهمكم السياسيّ، فيَضِلّوا ويُعيقوا، أكثر مما يَهتَدوا ويُعينوا.
كما كتبنا مراراً من قبل، وكما قال الشَيخ حازم أبو إسماعيل، المواجهة مع المَجلس العسكريّ قادمة. وقد ظهر خطأ قيادات الإخوان في تقديرِ ما يحدثُ على الساحة قبل 25 يناير، بل وأثنائها. كما ظهر إنحراف النَهج السَلفيّ في تناول الواقع برمته قبل 25 يناير، والرؤية لا تزال مغبشة، وتراكم عقودٍ من التقييم الخاطي لا يُصلحها تراجع أيامٍ معدودات. وهذا الخلل في تقدير الواقع أو في التعامل معه، سيؤدى إلى ضرب الأهداف الثورية، والإسلامية، في الصميم.
من الواجب أن يُحْجِمَ قادة هذه الحركات عن هذا التردّد والتخبّط والتناقض في الرؤية والتقييم، ومن ثم في القرارات والمواقف. فإن الآن هو أوان الخروج بالمطالب المشروعة كلها، لا بعضها. بل أزعم أننا قد فوّتنا بالفعل فرصة في الخروج، وتركنا ما كان متاحا لنا قبل إعادة تفعيل قانون الطوارئ، إلى أن وقعت واقعته. وهو بالضبط ما يكرّره هؤلاء القادة، بتردّدهم في المُواجهة يوما بعد يوم.
يا سادتنا، يا قادة العمل الإسلاميّ، الأحاديث، والبيانات والتحذيرات، لا قيمة لها عند المَجلس العسكريّ. الحشد الهائل في الشوارع، وضغط الجماهير هو ما يؤدى إلى تغيير المواقف. وسبحان الله، هل لا نزال نحتاج إلى التذكير بهذه الحقيقة ونحن لا تفصلنا عن 25 يناير إلا شهورا قليلة، الذي ما كان يحدثُ ما حدث فيه إلا بالحَشدِ الهَائل في الشوارع، وضغط الجماهير. لكن من الظاهر أنّ ذاكرة قادتنا الإسلاميين تحتاجُ إلى الإنعاش، على الدوام.
إن كان هؤلاء لا يريدون أن يختلطوا بمن يرونهم مَصدر عبثٍ بالأمن، أو بفلول الوطني، كما قد يُسْتَشّفُ من تصريح عبد المنعم الشحات، فأيام الجمعة تقع بشكلٍ أسبوعي كما عهدناها، ولا مانع من أن يحجزوا جمعة من الآن! وإن كنت أرى أن موضوع الخروج يوم الجمعة فقط، ثم كنس الشوارع بعدها، هو ما نجح المجلس العسكريّ في تكريسه في واقعنا الثورىّ! وهو من أكبر العوائق التي تقف في وجه تحقيق أى نتيجة لهذه التحرّكات الإسبوعية! فما سمعنا عن ثورة من قبل تضع جدولاً للثائرين ينظم خروجهم للمطالبة بحقوقهم، في يومٍ محدد، وساعاتٍ محددة، إلا في ثورة مصر، أمّ العَجائب!
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: