البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

سلام عليك يا مدني صالح

كاتب المقال سلام الشماع    من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
 المشاهدات: 6146 Salam_alshamaa@yahoo.com


 يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط


كنت أرسلت، قبل أيام، إلى مدينة هيت العراقية كلمة كتبتها عن المفكر الكبير والفيلسوف القدير الراحل الأستاذ مدني صالح، بعد أن أخبرني أحد الزملاء أن احتفالاً سيقام لتكريمه في هذه المدينة، ولم يكن في وسعي أن أتردد، أو أتلعثم، وكان يعز علي أن لا أساهم في هذا الاحتفال، ولو بكلمة، بعد أن تعذرت علي المشاركة في تشييع جثمانه، وحضور مجلس عزائه هناك، بسبب ظروف الاحتلال والغربة عن الأوطان.

ومدني صالح رمز شامخ من رموز الثقافة العراقية المعاصرة، بل هو من طراز المفكرين التنويريين الكبار أمثال الدكتور علي الوردي، وكان من أوائل المشتغلين والمهتمين بالفلسفة في العراق الحديث، لا بل هو أول مفكر عربي في التأريخ القديم والمعاصر يفلسف الأدب، ويؤدب الفلسفة، ويعرف الفلسفة للقارئ أنها ليست كتابات، أو نظريات، بقدر ما هي صرخة تملأ الزمان لتؤسس إرادة العقول الحرة.

مات مدني صالح.. ولم يكن يخطر في باله أن يموت في بغداد الجميلة وهي ترزح تحت دبابات الاحتلال.. كما لم يكن يتخيل في حياته أن جثمانه سينقل إلى مدينة هيت، مسقط رأسه، وهي محاصرة من طرف المارينز الأميركي في إحدى عملياته العسكرية، وقد أقفل نحوها الدروب.

ولأول مرة أعرف عن طريق الصديق رباح آل جعفر، ورباح أقرب الناس والأصدقاء إلى مدني صالح فلم يك يفارقه إلا نادرا، عرفت منه أن مدني مات بالسرطان، فقد قال لي وكتب ذلك: "منذ سنوات كان مدني يعرف أنه مصاب بالسرطان، وكان يقاوم السرطان ببسالة، يقعده المرض مرات، لكنه ما يلبث أن يقوم رافعا قامته بكبرياء، مجلجلا بصوته، كاتبا كلمته بتدفق مفكر، وفيلسوف، ومثقف كبير، وقبل كل شيء وبعده بكرامة إنسان، كأكرم ما يكون الإنسان، بحثا عن القيمة والمعنى والمعدن والجوهر في حياة الإنسان، وحواره المتصل مع الكون والحياة والخير والجمال".

ولقد أعجبتني كثيرا بلاغة وصف الأستاذ رباح للراحل الكبير بعد موته، وكان صائبا سديداً عندما قال: "مات مدني صالح بلا صولجان، أو مهرجان، أو باقات ورد.. وقد شبع حياة في موته، كما شبع موتا في حياته".

نعم والله لقد كان مدني كذلك.. وكان طوال العقدين الأخيرين من حياته يحذرنا من السايكوسبيكوية البريطانية، والسايكسبيكوية الفرنسية، والساكسبيكوية المتأمركة، بأسلوبه الحلو الرائع البديع الذي لا يفهمه أحد، إلاّ إذا اقترب منه وغاص وتعمق فيه.

وكانت الصحافة في العراق تتدافع على بابه لعلها تحظى بمقال منه، وكان يشترط عدم تعرض مقالاته إلى مقص الرقيب والحذف، وهو يفرض شروطه للنشر.

لم يكن يفهم لغة مدني صالح، التي يخاطب بها الآخرين شفاها، إلاّ أربعة، هم العلامة الراحل علي الوردي، والأديب الراحل يوسف نمر ذياب والكاتبان الصحفيان منذر آل جعفر، ورباح آل جعفر وليعذرني من حذفت اسمه لعدم ثبوت الأدلة عندي على علاقته بمدني. أما أنا فبالكاد كنت أمسك بجناح جملة من كلامه عندما يخاطبني، ولكني فهمت جيداً ما أراده حين نشر مقالته (عندما يضحك سلام الشماع في عبّه الصحفي) بصفحة كاملة في جريدة القادسية رداً على ما كتبته من أن أول الكتّاب الذين تنفد كتبهم من الأسواق هو علي الوردي، يليه ثلاثة آخرون، ليأتي مدني صالح في المرتبة الخامسة.

وكان الراحل علي الوردي أستاذاً لمدني في كلية آداب جامعة بغداد، وكان معجبا بنبوغ هذا الطالب القادم من هيت، والذي كان يرغب أن يكون فيلسوفا، ومن أجل ذلك باع أجمل البساتين التي خلفها له أبوه في هيت، ولعل طلبة البحرين الذين تلقوا دراستهم في العراق يعرفون هذا الأستاذ الأشهر بين أساتذة الفلسفة العراقيين والعرب على حد سواء.

يقول حميد المطبعي: (ولد "مدني صالح" عام 1932 في مدينة هيت بمحافظة الانبار، وهيت مجتمع كلاسيكي البنى، رفض مدني الاندماج في البنى، ورفض مدني الاندماج في بناه، ورفض أن يتعايش في أمزجته فاكتأب في حداثته، وكآبة الفلاسفة نبأ ونور، ومارس فترة أن يكون معلماً، لكنه أرتكن زاوية بعيدة عن تطفل المعلمين، فيأتي إلى المدرسة بكتاب ويخرج بكتاب وفي مقهى المدينة علم طليعة يجلسون إليه معنى أن يعيشوا ويفكروا شيئا فشيئا، درّبهم على منهج السخرية، وصاروا في ما بعد شعراء وأدباء أشارت كتاباتهم إلى علامات الاستفهام أكثر من علامات التعجب!..).

ويضيف المطبعي: (تخرج "مدني" في الدورة الأولى في قسم الفلسفة بجامعة بغداد، وأكمل تخرجه في جامعة (كمبردج) في بريطانيا، وكان في جدل وعراك مع أستاذه الإنكليزي الذي أراد من مدني أن يكون تلميذا ضعيفا، وهو جاء إليه ممتلئ الفلسفة، فتخرج متمردا علي الأكاديمية المتحجرة، وعندما عين وأساتذة للفلسفة بجامعة بغداد في ستينات القرن المنصرم كان يرشد الطلبة إلى الثورة على المسطرة الأكاديمية".

آخر مرة رأيت فيها مدني صالح في بيته في حي الغزالية ببغداد، بعد الاحتلال، وجاءني، ليس كعادته، يجرُّ رجليه على الأرض جرا، وخلفه زوجه تحمل كرسياً جلس عليه الراحل العزيز وفي عينيه دمعة ألم، وهو يرى رتلاً أمريكياً يمرُّ أمام بيته، فلعن السايكسبيكوية الأمريكية وأحفادها إلى يوم الدين.

عندما نعى إليّ الصديق رباح آل جعفر، مدني صالح، وكلانا كنا في غربتنا بعيدين عن العراق، أحسست أن قلبي ينخلع، فها هو آخر الفلاسفة العراقيين يرحل في وقت نحن بأمس الحاجة إلى طروحاته في مضمار المقاومة والتحرير وإعادة الكرامة والسيادة والبهاء إلى وطننا العزيز. سلام عليك أيها المدني الصالح.. وسلام على هيت التي أنجبتك.. وبغداد التي منحتك السكن والشهرة.. والعراق الذي احتضنك عالما فيلسوفا فذاّ شامخا.

سلام عليك يا علما من أعلام العراق، ورمزا من رموزه، وراية عالية بين راياته، ونهر محبة وأدب سيظل متدفقا يذكر بأمجاد هيت والعراق والعرب..


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

مدني صالح، العراق، ذكريات، تأبين، رثاء، أدب،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 18-09-2009  

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
محمد شمام ، طلال قسومي، سيد السباعي، عمر غازي، عبد الله زيدان، خبَّاب بن مروان الحمد، محمد العيادي، سلوى المغربي، رافع القارصي، سامر أبو رمان ، عواطف منصور، أبو سمية، ضحى عبد الرحمن، يزيد بن الحسين، د - المنجي الكعبي، محمد عمر غرس الله، د. صلاح عودة الله ، أحمد بوادي، سفيان عبد الكافي، سليمان أحمد أبو ستة، عبد الله الفقير، إيمى الأشقر، صلاح الحريري، كريم السليتي، صلاح المختار، فتحي الزغل، سامح لطف الله، رضا الدبّابي، فوزي مسعود ، مصطفى منيغ، مراد قميزة، د. أحمد محمد سليمان، عمار غيلوفي، إسراء أبو رمان، سعود السبعاني، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، تونسي، محمد الطرابلسي، صفاء العراقي، خالد الجاف ، علي الكاش، أنس الشابي، الناصر الرقيق، محمد الياسين، د. خالد الطراولي ، رمضان حينوني، نادية سعد، فتحـي قاره بيبـان، حسن عثمان، العادل السمعلي، جاسم الرصيف، رافد العزاوي، د- جابر قميحة، أشرف إبراهيم حجاج، محمود سلطان، محمد أحمد عزوز، مصطفي زهران، د - محمد بنيعيش، د - مصطفى فهمي، عبد الغني مزوز، د- هاني ابوالفتوح، فتحي العابد، الهادي المثلوثي، محمود فاروق سيد شعبان، عبد الرزاق قيراط ، فهمي شراب، محمود طرشوبي، د - محمد بن موسى الشريف ، د - صالح المازقي، د. طارق عبد الحليم، د.محمد فتحي عبد العال، أحمد الحباسي، وائل بنجدو، ياسين أحمد، د- محمود علي عريقات، حاتم الصولي، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، منجي باكير، مجدى داود، أحمد بن عبد المحسن العساف ، د - الضاوي خوالدية، د- محمد رحال، د. ضرغام عبد الله الدباغ، إياد محمود حسين ، صباح الموسوي ، كريم فارق، صفاء العربي، أحمد النعيمي، ماهر عدنان قنديل، صالح النعامي ، رشيد السيد أحمد، المولدي الفرجاني، حميدة الطيلوش، د. كاظم عبد الحسين عباس ، د. مصطفى يوسف اللداوي، د. أحمد بشير، د - عادل رضا، يحيي البوليني، أحمد ملحم، محمد اسعد بيوض التميمي، رحاب اسعد بيوض التميمي، د. عبد الآله المالكي، محرر "بوابتي"، عراق المطيري، د. عادل محمد عايش الأسطل، محمد يحي، علي عبد العال، الهيثم زعفان، حسن الطرابلسي، سلام الشماع، عزيز العرباوي، د - شاكر الحوكي ، حسني إبراهيم عبد العظيم، أ.د. مصطفى رجب،
أحدث الردود
مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


It is important that issues are addressed in a clear and open manner, because it is necessary to understand the necessary information and to properly ...>>

وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة