البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبمقالات رأي وبحوثالاتصال بنا
 
 
   
  الأكثر قراءة   المقالات الأقدم    
 
 
 
 
تصفح باقي إدراجات الثورة التونسية
مقالات الثورة التونسية

المشترك الوطني والمسألة الدينية في تونس

كاتب المقال عادل بن عبد الله - تونس   
 المشاهدات: 4585



منذ تأسيس ما سُمّي بـ"الدولة الوطنية" أو الدولة- الأمة على النمط الكمالي (نسبة إلى كمال أتاتورك ومرجعيته اللائكية المتطرفة)، حرصت المنظومة السلطوية في لحظتيها الدستورية والتجمعية (وهي منظومة جهوية زبونية فرنكفونية تابعة) على أن يكون الحقل الديني احتكارا خالصا للدولة وأجهزتها الأيديولوجية والقمعية دون غيرها. ورغم حرص تونس منذ الفصل الأول من عهد الأمان لسنة 1857 (والذي أشار إليه دستور 1861) على حرية المعتقد من جهة أولى، والتنصيص على الإسلام باعتباره مرتكزا أساسيا من مرتكزات الهوية من جهة ثانية (كما هو الشأن في دستور 1959 ودستور 2014)، فإن صراع "التأويلات الدينية" كان سببا رئيسا من أسباب الاحتقان السياسي الذي عرفته تونس قبل الثورة وبعدها، وهو احتقان هندس الحقل السياسي في تونس وحدد سقفه بعد محرقة النهضويين في تسعينيات القرن الماضي، وشكّل أيضا بنية الحقل السياسي بعد الثورة بحكم استصحاب تلك الصراعات الهوياتية والعجز عن تجاوزها بصورة تعيد الصراعات السياسية إلى مداراتها الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية.


ما قيمة الدستور في ظل "غياب" المحكمة الدستورية؟

رغم اتفاق كل الفاعلين الجماعيين على أن الدستور التونسي هو المرجع الأعلى لبناء المشترك الوطني وتنظيم عملية "العيش معا"، فإن التوافقات السياقية الهشة التي أنتجته وغلبة الصراعات الثقافوية والعجز عن التوافق على مشروع وطني (بالإضافة إلى غياب المحكمة الدستورية) يجعل من الاحتكام إلى الدستور ضربا من التحكم الذي يكتسب قيمته من توازنات الضعف؛ وليس من سلطة دستورية هي محل قبول جماعي (أي من قرارات المحكمة الدستورية ومن الفقه الدستوري الذي سيتشكل من تلك القرارات). ولعل تأويل الدستور في ما يتصل بالدين وعلاقته بالتشريعات (وما يؤسسها من فلسفة سياسية، بل من رؤية وجودية كاملة) هو أعظم مثال لهذا التوتر البنيوي الذي ما زال يلازم المجتمع التونسي في علاقته بالهوية أو بمصادر إنتاج المعرفة "الصحيحة" في سوق الخيرات الروحية.

هل العنف المادي أو الرمزي "ديني" بالضرورة؟

صوريا، يُعتبر الدستور التونسي دستورا استثنائيا في سياقه العربي الإسلامي. فهو كما أشارت الأستاذة إقبال بن موسى في مقال لها بعنوان "الدين في الدستور التونسي" والمنشور على موقع "المفكرة القانونية"، يمثل سابقة دستورية في تنصيصه على حرية الضمير التي هي أشمل من حرية المعتقد. كما أن الدستور التونسي من الناحية الشكلية قد جرّم كل أشكال التمييز على أساس القناعات الدينية والفكرية، وجرّم الدعوة للتكفير والعنف والكراهية والتصفية الجسدية واستباحة الدم.

ولكنّ الملاحظ في تونس هو أن السجال العمومي حول "العنف المادي" أو "العنف الرمزي" يكاد ينحصر في "التكفير" أو في الخطابات الدينية، دون الخطابات والممارسات التي تصدر من الجهات العلمانية (أو ما أسميته في مقال سابق بـ"التكفير المعلمن")، والذي يكاد يكون لازمة في خطابات ما يسمى بـ"العائلة الديمقراطية" التي هي خليط ميتا- سياسي لا يجمع بين مكوناته إلا العداء للإسلام السياسي وحلفائه، سواء كان التعبير عن ذلك العداء بمنطق "الاستئصال الناعم" (الاعتراف الشكلي بمخرجات الانتخابات مع محاولة تهميش المكوّن الإسلامي واستبعاده عن مركز الفعل السياسي)، أم كان بمنطق "الاستئصال الصلب" (إدارة الصراع على أساس وجودي واعتماد منطق التناقض الجذري وغير القابل للتجاوز).

في ضرورة المراجعات والنقد الذاتي

قد يكون من لغو الحديث أن نذكر بالتوتر الذي تعكسه خطابات الإسلاميين في محاولاتهم "تبيئة" الخطاب الفقهي التراثي ضمن سياق حداثي مُعلمن؛ لم يعد يقبل أن يديره منطق "ما يكتبه المرء هل لملته" أو لجماعته الإيمانية دون سائر "المواطنين". ولكن قد يكون من لغو الحديث أيضا أن نُذكّر بأن "الحداثة المعطوبة" ومحصولها الواقعي يعطيان لتلك الخطابات شرعية أو مقبولية اجتماعية؛ لا يمكن تجاوزها بمجرد وصم أصحابها بالإرهاب والتطرف أو بالرجعية والظلامية. فالحداثة والتنوير والعلمانية ما زالت (خارج خطابات النخب) مفاهيم ذات سمعة سيئة، سواء من جهة الطبيعة الاستبدادية للأنظمة التي احتكرت الحديث باسمها (ومنها نظام المخلوع)، أو من جهة محصولها الواقعي في مشروع التحرر وبناء مقومات السيادة الوطنية.

كما أن أغلب النخب الحداثية التي تدعي الحديث باسم "الدولة المدنية الديمقراطية الاجتماعية" بعد الثورة لم تظهر "مفاصلة" فكرية أو سياسية حقيقية عن المنظومة القديمة وورثتها الذين اعتبرتهم جزءا من العائلة الديمقراطية، واستمرت في إدارة الصراع على أساس التناقض الرئيس (الراهن والاستراتيجي) مع الإسلاميين والتناقض الثانوي (والمؤجل دائما إلى درجة الشك في وجوده أصلا) مع ورثة المنظومة القديمة.

ولا شك عندنا في أن هيمنة الصراعات الثقافوية الهوياتية تفرض مثل هذا المنطق وتجعل من المنطقي ما نشاهده في الواقع التونسي من "التقاء الأضداد" (بمن فيهم حركة النهضة بعد قرار الدخول إلى الدولة أو الحكم بمنطق المنظومة القديمة وبشروطها)، وتوحدهم في الدفاع عن "النمط المجتمعي التونسي" الذي هو في النهاية محصول احتكار السلطة لإنتاج المعنى والرموز دون تفاوض مجتمعي حقيقي، بل بعيدا عن انتظارات/ قناعات نسبة كبيرة من التونسيين أو حتى بالتناقض الصريح معها.

المأزق البنيوي والحاجة إلى "الكتلة التاريخية"

إن غياب المحكمة الدستورية من جهة أولى، وانعدام أية جهة دينية ذات شرعية غير مشكوك فيها من جهة ثانية، يجعل من العلاقة بين الدين والمشترك الوطني علاقة ملتبسة وهشة وقابلة للتحول إلى حقل للعنف الرمزي أو المادي في أية لحظة. فلا الإسلاميون غادروا مربع التراث وتوصيفاته أو تشريعاته ما قبل المواطنية أو استطاعوا بناء خطاب مواطني حقيقي، ولا العلمانيون أقاموا مراجعة نقدية للفلسفة السياسية اللائكية التي تمثل خلفية فهمهم للعلاقة الممكنة بين الديني والسياسي ولدور الدين في بناء المشترك الوطني (بل أيضا فهمهم لمعنى الديمقراطية وآليات الدمج والإقصاء فيها). وهي وضعية لا يمكن أن تنتج إلا ما نراه من احتقان مجتمعي لا يُمثل الاحتقان السياسي إلا وجها من وجوهه.

وفي غياب حوار وطني حقيقي (تسبقه مراجعات فكرية ونقد ذاتي عند كل الفاعلين الجماعيين)، لن يكون اللجوء إلى الفصل 80 من الدستور أو حتى الانقلاب على منجز الانتقال الديمقراطي برمته أو استئصال أي طرف سياسي (كما يحلم الكثير من "الديمقراطيين") إلا ترحيلا للأزمة وتعميقا لها. فالأزمة في تونس هي أزمة مجتمعية لا يمكن أن نفصل فيها القيمي عن التشريعي، ولا السياسي عن النقابي، ولا الراهن عن التاريخي، ولا الداخلي عن الإقليمي والدولي. وهي لذلك لا تقبل الحل إلا بـ"كتلة تاريخية" عابرة للأيديولوجيات وحاملة لمشروع تحرر وطني سيادي يقطع جدليا مع السرديات الكبرى وأوهامها التأسيسية التي هي الآن أكبر عائق لاوظيفي أمام بناء الجمهورية الثانية.

ولا شك عندنا في أن هذه الأطروحة قد تبدو ضربا من "أحلام اليقظة"، ولكن ماذا يعني تحرير الإنسان والكيان، وماذا يعني المشروع السيادي المأمول غير تلك "الأحلام" التي هي في ظاهرها ضرب من الجنون الجماعي؛ بحكم غلبة "نظام التفاهة" الذي تحوّل فيه "السفهاء" إلى مراجع عليا في إنتاج المعنى "الصحيح" دينيا وسياسيا على حد سواء؟


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

تونس، العلمانية، التهجم على الإسلام في تونس، بقايا فرنسا،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 14-12-2020   الموقع الأصلي للمقال المنشور اعلاه المصدر: عربي 21

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك
شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
علي الكاش، د. أحمد بشير، الناصر الرقيق، طلال قسومي، صباح الموسوي ، ماهر عدنان قنديل، رشيد السيد أحمد، صفاء العربي، نادية سعد، د - شاكر الحوكي ، حسن عثمان، عواطف منصور، أحمد بن عبد المحسن العساف ، د. كاظم عبد الحسين عباس ، أحمد الحباسي، د. طارق عبد الحليم، خبَّاب بن مروان الحمد، حسن الطرابلسي، د. ضرغام عبد الله الدباغ، رحاب اسعد بيوض التميمي، مصطفي زهران، رافد العزاوي، محمد الطرابلسي، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، عراق المطيري، د - عادل رضا، صالح النعامي ، عمر غازي، د - المنجي الكعبي، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، فوزي مسعود ، إسراء أبو رمان، د - محمد بن موسى الشريف ، أشرف إبراهيم حجاج، د - الضاوي خوالدية، العادل السمعلي، د. صلاح عودة الله ، حاتم الصولي، الهيثم زعفان، محمد اسعد بيوض التميمي، أ.د. مصطفى رجب، سلام الشماع، سلوى المغربي، صلاح المختار، خالد الجاف ، أبو سمية، د. مصطفى يوسف اللداوي، أحمد بوادي، سيد السباعي، محمد شمام ، كريم السليتي، مجدى داود، محمود فاروق سيد شعبان، يزيد بن الحسين، محمود طرشوبي، د- محمد رحال، سعود السبعاني، د- هاني ابوالفتوح، جاسم الرصيف، رضا الدبّابي، الهادي المثلوثي، أحمد النعيمي، سفيان عبد الكافي، ضحى عبد الرحمن، علي عبد العال، يحيي البوليني، د - مصطفى فهمي، د- محمود علي عريقات، محمد أحمد عزوز، المولدي الفرجاني، حميدة الطيلوش، د - محمد بنيعيش، محمد الياسين، عمار غيلوفي، عبد الله زيدان، فتحي الزغل، د- جابر قميحة، أنس الشابي، د. خالد الطراولي ، فتحي العابد، عبد الرزاق قيراط ، د.محمد فتحي عبد العال، محمد يحي، عزيز العرباوي، تونسي، رمضان حينوني، كريم فارق، فهمي شراب، محمد عمر غرس الله، د - صالح المازقي، ياسين أحمد، سامر أبو رمان ، محمود سلطان، محرر "بوابتي"، د. أحمد محمد سليمان، صفاء العراقي، د. عبد الآله المالكي، حسني إبراهيم عبد العظيم، عبد الغني مزوز، مصطفى منيغ، عبد الله الفقير، سامح لطف الله، صلاح الحريري، إياد محمود حسين ، فتحـي قاره بيبـان، منجي باكير، مراد قميزة، أحمد ملحم، سليمان أحمد أبو ستة، د. عادل محمد عايش الأسطل، محمد العيادي، رافع القارصي، وائل بنجدو، إيمى الأشقر،
أحدث الردود
مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


It is important that issues are addressed in a clear and open manner, because it is necessary to understand the necessary information and to properly ...>>

وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضات من طرفه أومن طرف "بوابتي"

كل من له ملاحظة حول مقالة, بإمكانه الإتصال بنا, ونحن ندرس كل الأراء