البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

"الحرقة": تسفير الشباب إلى المحرقة

كاتب المقال طارق الكحلاوي - تونس   
 المشاهدات: 3010


 يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط


توافق التونسيون على مصطلح “الحرقة” لوصف الهجرة السرية أو غير القانونية. يعكس ذلك اللاوعي الجمعي حول نظرة التونسيين لهذه الظاهرة. إذ يمس أكثر من معنى: من تخطي القانون أو “حرقه”، وما يتعلق به من تخطي للحد والحدود، لكن يتجاوز في رأيي ذلك إلى حرق العلاقة مع الدولة، والتعبير الأمثل على احتراق العقد الوهمي بين “دولة الاستقلال” وفشل مشروعها في أعين أجيال، لم تعد ترى في الوطن إلا محرقة لأحلامهم. نتذكر هذه الحقيقة المؤلمة بشكل دوري عندما يغرق بعض عشرات من الشباب التونسيين في عرض البحر؛ بين السواحل التونسية وجزيرة لامبيدوزا الإيطالية، المحطة الأولى للقادمين في القوارب الهشة. وهو ما حدث هذا الأسبوع عندما مات وفقد عشرات التونسيين من “الحراقة”، غير أن هذه المرة حادثة الغرق تمت إثر “اصطدام” المركب مع خافرة جيش البحر التونسي، وما تلاها من شهادات لبعض الناجين حول أن الاصطدام كان “متعمدا”. شبهة الحرق هذه المرة تتجه نحو الدولة ليس رمزيا فقط كما في السابق بل فعليا وعمليا.

الحقيقة لم يكن هذا حال العشريتين الأوليين للدولة الوطنية. ففي الستينيات والسبعينيات لم يكن يحتاج التونسيون “الفيزا” للسفر إلى الشمال الأوروبي، وكان من يسافر منهم محدودا، ويقتصر أساسا على فئتين: أولا عملة البناء الذين شكلوا جيش البنائين الذي أعاد بناء أوروبا وخاصة فرنسا، وهو من الجهات الريفية الداخلية وغالبيتهم لم يصطحب عائلاتهم في البداية، والفئة الثانية هي فئة الطلبة المغامرين المشدودين لأجواء المغامرة، أو المعاينة المباشرة للحركات السياسية والفكرية في أوروبا، خاصة من فئة اليسار الجديد. كان سلم الارتقاء الاجتماعي عبر التعليم مفتوحا، وكان الأمر معكوسا حيث كانت الجامعات تفرض على طلبتها الالتزام بالعمل بعد التخرج؛ حيث كان الفراغ الذي تركه الاحتلال الفرنسي في الوظيفة العمومية يستوجب ملأه بالأجيال الجديدة من التونسيين.


كان العقد الاجتماعي بين الدولة وهذه الأجيال مقبولا مع السياسة المعتمدة في مجانية الصحة والتعليم واقتصاد يعطي أولوية للطبقة الوسطى، رغم أن العقد السياسي كان معطوبا لمصلحة دولة فردانية استبدادية، لا تسمح بالتداول السلمي على السلطة. بدأ الوضع في الانخرام مع النصف الثاني في السبعينيات وبروز المؤشرات الأولى على سياسة “الاقتصاد الحر” للهادي نويرة وحصول أول اصطدام اجتماعي كبير منذ الاستقلال من خلال الإضراب العام في يناير/جانفي 1978.

بدءا من الثمانينيات بدأ السلم الاجتماعي يضيق ونسب البطالة ترتفع، وبدأ العقد الاجتماعي يتعطل ويهترئ، وبدأت “العلاقة مع الوطن” تتغير، ومن هنا بدأ التلهف لمغادرة البلاد وأصبحت نية البحث عن آفاق الارتقاء الاجتماعي خارجها تتعزز. أصبح البقاء في الوطن شيئا فشيئا لجحافل الشبان العاطلين عن العمل، مرادفا للركود واحتراق الزمن والإعمار. ومن هنا أصبحت “الحرقة” حلمهم، الذي يقوى مع كل سيارة بلوحات أوروبية، تعود إلى البلاد ويقودها شاب حرق وعاد محملا “بأوراقه” الرسمية يستعرضها جميعا أمام أبناء جيله.

انتقلنا إثرها خاصة في السنوات الألفين إلى اختصاص و”بيزنس”، وانطلقت الشبهات تشابك مصالح “الحراقة” والمستفدين منها من أعوان وغيرهم، يغضون الطرف إذا أتتهم مصلحة مادية وراءها. ونحن إزاء مواسم حرقة تتزايد فيها تشابكات مصالح المستفيدين. ومعها تتزايد مخاطر الغرق. وهو ما حصل إثر الثورة إثر انهيار القوات الحاملة للسلاح، خاصة منها المعنية بحراسة الحدود البحرية.


لكن ما حصل منذ بداية شهر سبتمبر ملفت للانتباه. وأفاد الناطق الرسمي باسم المنظمة الدولية للهجرة بمنطقة البحر الأبيض المتوسط، فلافيو دي جياكومو، أن نحو 1400 مهاجر غير نظامي وصلوا إلى السواحل الايطالية خلال شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، في ارتفاع ملحوظ لأعداد الوافدين غير النظاميين على السواحل الإيطالية منذ ثلاث سنوات.

ونقلت وسائل الإعلام التونسية عن المتحدث، أول أمس الخميس، خلال أشغال اليوم الثالث من دورة لتكوين المكونين في مجال الهجرة انتظمت بالعاصمة لفائدة عدد من الإعلاميين، أن الفترة الأخيرة شهدت ارتفاعا ملحوظا في نسق تدفق المهاجرين التونسيين غير النظاميين إلى إيطاليا؛ إذ وصل عدد المهاجرين الذين بلغوا السواحل الإيطالية منذ 1 كانون الثاني/جانفي 2017 وإلى حدود 30 أيلول/سبتمبر الماضي نحو 2700 مهاجر، بالإضافة إلى بعض المئات ممن التحقوا بإيطاليا خلال الأيام الأولى من شهر تشرين الأول/أكتوبر الجاري، وغيرهم ممن لم تحصهم فرق الرقابة على السواحل، وتسربوا بين سكان المناطق التي قصدوها.

لكن الأهم من كل ذلك، هو تساؤل جياكومو عن أسباب العودة المفاجئة للمهاجرين المتجهين إلى مدن الجنوب الإيطالي، وخاصة من سواحل جزيرة قرقنة من ولاية صفاقس، مشددا على أن السلطات الإيطالية غير قادرة على ترحيل الوافدين عليها من تونس إلا بمعدل 30 مهاجرا غير نظامي في الأسبوع، وذلك وفقا للاتفاق المبرم مع الجمهورية التونسية، في حين يدعى الباقون إلى الرحيل الطوعي مما يخول لهم التسرب في المجتمعات الأوروبية دون تسوية وضعياتهم. بين المتحدث باسم المنظمة أنه في سنة 2016 تم إحصاء 132.069 مهاجرا، وتسجيل 3073 وفاة جراء الغرق. وأكد أن سياسة غلق الأبواب أمام الهجرة النظامية التي اتخذتها دول الاتحاد الأوروبي لا تخدم مصلحتها، خاصة أن 23 بالمائة من القوى العاملة فيها ستحال بحلول سنة 2050 على التقاعد، مما يجعلها في حاجة إلى اليد العاملة.

في كل الحالات علينا أن نسأل السؤال الأساسي الآن: هل أن ما حدث هو تواطؤ رسمي لترك الحبل على الغارب طيلة شهر أيلول/سبتمبر، خاصة من ساحل العامرة في ولاية صفاقس، حيث نقلت لي مصادر أثق فيها أن شبكة التسفير للحارقين أصبح يشرف على تأمينها ملاحون محترفون، يقضون أوقاتا قياسية تصل إلى 16 ساعة بين ساحل صفاقس ولامبيدوزا. هل حدث انفلات وبالتالي احتجاج أوروبي، مما أدى إلى اضطراب السلطات التونسية وتضارب بعض الشبكات المرتبطة ببعض موظفيها، لتتصرف بشكل متوتر أدى لإغراق أحد المراكب؟ هذا ما يستوجب التحقيق وليس فقط حادث الاصطدام.

في كل الحالات نحن إزاء عملية إحراق لجيل يختزن الاحتجاج وتنظر إليه الدولة كخطر محتمل، هو تصدير لعرض البحر ومخاطر لقنابل موقوتة، وإغراق لأحلام أجيال من المعطلين. وفي كل الحالات نحن إزاء جريمة دولة تتجاوز طرفا سياسيا بذاته.


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

تونس، الثورة التونسية، بقايا فرنسا، الحرقة، الهجرة السرية، قوارب الموت،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 14-10-2017  

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
مصطفي زهران، محرر "بوابتي"، سامر أبو رمان ، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، محمد أحمد عزوز، صفاء العراقي، أ.د. مصطفى رجب، سيد السباعي، د- هاني ابوالفتوح، رافد العزاوي، العادل السمعلي، عبد الرزاق قيراط ، فوزي مسعود ، رحاب اسعد بيوض التميمي، الهيثم زعفان، سفيان عبد الكافي، صالح النعامي ، أبو سمية، كريم السليتي، المولدي الفرجاني، محمد العيادي، محمد الطرابلسي، د- محمد رحال، سعود السبعاني، وائل بنجدو، يزيد بن الحسين، مصطفى منيغ، د.محمد فتحي عبد العال، خالد الجاف ، محمود سلطان، د. خالد الطراولي ، رشيد السيد أحمد، حسن الطرابلسي، عواطف منصور، كريم فارق، د. عبد الآله المالكي، د - مصطفى فهمي، علي الكاش، سلام الشماع، صلاح الحريري، أشرف إبراهيم حجاج، د. مصطفى يوسف اللداوي، محمد اسعد بيوض التميمي، د - عادل رضا، د - محمد بن موسى الشريف ، صباح الموسوي ، أحمد ملحم، ياسين أحمد، رمضان حينوني، عمر غازي، محمد عمر غرس الله، حسني إبراهيم عبد العظيم، رافع القارصي، أحمد النعيمي، فتحي الزغل، حاتم الصولي، عزيز العرباوي، صلاح المختار، د. أحمد بشير، فتحي العابد، سليمان أحمد أبو ستة، د. صلاح عودة الله ، محمد الياسين، سامح لطف الله، مراد قميزة، عبد الله زيدان، سلوى المغربي، د - محمد بنيعيش، د- جابر قميحة، علي عبد العال، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، الهادي المثلوثي، ماهر عدنان قنديل، فتحـي قاره بيبـان، د. أحمد محمد سليمان، مجدى داود، عبد الغني مزوز، نادية سعد، حسن عثمان، أحمد بوادي، عراق المطيري، يحيي البوليني، د. ضرغام عبد الله الدباغ، إسراء أبو رمان، د. كاظم عبد الحسين عباس ، د. طارق عبد الحليم، منجي باكير، الناصر الرقيق، فهمي شراب، عبد الله الفقير، تونسي، محمود فاروق سيد شعبان، إيمى الأشقر، محمد شمام ، حميدة الطيلوش، محمود طرشوبي، خبَّاب بن مروان الحمد، د- محمود علي عريقات، جاسم الرصيف، أحمد الحباسي، د - المنجي الكعبي، طلال قسومي، ضحى عبد الرحمن، عمار غيلوفي، محمد يحي، د - الضاوي خوالدية، أحمد بن عبد المحسن العساف ، رضا الدبّابي، إياد محمود حسين ، د - شاكر الحوكي ، أنس الشابي، د - صالح المازقي، صفاء العربي، د. عادل محمد عايش الأسطل،
أحدث الردود
مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


It is important that issues are addressed in a clear and open manner, because it is necessary to understand the necessary information and to properly ...>>

وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة