البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

الهيئات الدستورية والدولة في تونس

كاتب المقال المهدي مبروك - تونس   
 المشاهدات: 3110



سارع التونسيون، على إثر ثورة 2011 مباشرة إلى إحداث هياكل وأطر وهيئات مستقلة عديدة، إجراءً احترازياً يقيهم هيمنة الدولة وتغولها، وهي التي استولت، مند استقلال البلاد أكثر من سبعة عقود تقريبا، على كل مناشط الحياة اليومية. تمت دولنة المجتمع، حتى التهمت الدولة المجتمع، فألحقته بها وخنقته. ما أن سقط النظام، وقبل أن تتبين بعد ملامح السلطة السياسية الحاكمة في تلك الفترة التأسيسية التي عرفت فراغا سياسيا ودستوريا، حتى أبدى التونسيون حرصا إلى حد الهوس على تشكيل هذه الهيئات وبنائها، فاهتدوا، منذ الأسابيع الأولى، إلى تأسيس الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي التي تولت مهام "برلمان ثوري انتقالي"، أمن إصدار أهم التشريعات، كالتي تعلقت بقوانين الأحزاب والجمعيات والانتخابات، فضلا على المجلس التأسيسي. ومن رحمها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، التي وضعت صندوق الاقتراع، في جميع مراحله، خارج نفود وزارة الداخلية أو أي سلطة تنفيذية أخرى. وبذلك ضمنت تونس انتقالا سياسيا سلسلا وأقل مخاطر مما حدث في دولٍ شهدت مصائر مشابهة.

وتواصل إحداث مثل هذه الهيئات، حتى إذا صدر دستور 2014، كانت هيئاتٌ عديدة هي بحكم الواقع تشتغل، ولها مشمولات ومواد بشرية... إلخ. بلغت الهيئات المستقلة التي تمت دسترتها خمساً: الهيئة العليا للانتخابات والهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري وهيئة حقوق الإنسان وهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد وهيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة. وقد تم التنصيص عليها في دستور ما بعد الثورة. ولكن، علينا أن نضيف هيئات أخرى مستقلة، لا تقل قيمة عنها، على الرغم من أهميتها، على غرار هيئة الحقيقة الكرامة، والهيئة الوطنية لمقاومة التعذيب، والهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية والهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص... إلخ، هيئات تصرّ على أن تكون لها شخصيتها القانونية والمالية التي تجعلها غير خاضعةٍ لوصاية السلطة التنفيذية، وربما حتى السلطة القضائية، إلا بإجراءات عسيرة، ما يمنحهم شبة حصانة تامة.

وإذا كانت النخب التونسية قد باركت، في البداية، هذا التوجه، فإن جملةً من التباينات حدثت لاحقا، وهي ما فتئت تتعزّز، خصوصا في ظل الضعف المتواصل للدولة التي تنازلت عن بعض وظائفها طوعا أو كرها، لعل أهمها احتكار العنف ورسم السياسات العمومية، وإنفاذ سلطة القانون، إذ تنامت نزعات تمرّد تخرق ذلك كله: الاعتداءات على الملك العمومي، رفض الإذعان لسلطة القانون وتنامي الاقتصاد الموازي... إلخ.

في ظل ما يشبه البلقنة لمجالها الجغرافي السيادي، نتيجة تنامي النزعات الجهوية (المناطقية) الممزوجة بنفس عروشي/ قبلي، خلنا أنه انقرض إلى الأبد، صادق مجلس النواب على قانونٍ متعلق بالأحكام المشتركة لهذه الهيئات، وسط جدل حاد عكسه النقاش بين النواب في ظل تمسّك بعضهم بإصدار مجلة قانونية مستقلة بالهيئات الدستورية. وكشف النقاش عن وجود تبايناتٍ عديدةٍ، لا تعكس غياب التوافق بين هؤلاء فحسب، بل بين مكوّنات النخب السياسية عموما، فضلا عن قطاعاتٍ واسعة من الرأي العام، خصوصا حول مسألة تنامي هذه النزعات الاستقلالية للهيئات التي تقضم سلطة الدولة وتُضعفها.

كما أن تنامي دور اللوبيات المالية ومواقع النفوذ، بما فيها لوبيات الفساد التي استطاعت أن تجند القضاء والإعلام قد أنهك الدولة، وهي أسباب قد تكون دفعت رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، إلى شن معركة ضروس ضد الفساد منذ أسابيع، لا ندري مآلاتها في ظل مقاومة شرسة من جيوبها المتغلغلة في أجهزة الدولة. كما علينا ألا نغفل، في سرد هذا السياق، تمرّد قطاعاتٍ مهنيةٍ عديدة، استطاعت أن تستغل ضعف الدولة هذا، وتوسع من مجالات تدخلها، وتضفي شيئا من الحصانة على نفسها، على غرار المحامين والأطباء والقضاة الذين استطاعوا أن يلغوا إجراءاتٍ عديدة، ويحققوا امتيازاتٍ عديدة، قد لا تكون أصلا دستوريةً، في ظل قوة نفوذ ممثليهم في البرلمان، ولعبة تبادل المنافع في هذا المجلس (موضوع الجباية تحديدا).

تؤشّر هذه الوضعية إلى ضعف الدولة المستفحل، حتى بدت فاقدةً هيبتها، وذلك ما يبرّر به بعضهم تلك المخاوف، على اعتبار أن هذه الهيئات قد تشكل سلطة مضادة، تجهز على ما تبقى للدولة من سلطةٍ، وقد استحوذت هذه الهيئات على صلاحياتٍ واسعةٍ، قد تكون من مشمولات القضاء والسلطة التنفيذية معا، حتى بدت هذه الهيئات كأنها فوق الدولة، متمتعة بحصانة مطلقة، وأحيانا خارقة للعادة. تعفيها من المساءلة حتى أمام البرلمان ذاته، خصوصا وقد قدّمت هيئة الحقيقة والكرامة، بقيادة سهام بن سدرين في السنتين الفارطتين، درسا قاسيا في الاستقلالية، وهي التي تحرّرت من أي مساءلة، بما فيها أمام القضاء أو النواب، في ظل مخاوف محتملة من أن ترهن الأغلبية البرلمانية هذه الهيئات وتشلها، حين تكون مناوئة لها.

وحدة الدولة في تونس معرّضة للتفتت والتشظّي، والإمكانية واردة في ظل مؤشراتٍ متضافرة تؤكد ضعف الدولة على النحو الذي أوضحته السطور السابقة، يقابله "تعملق" هذه الهيئات. ووجود الهيئات والتنصيص قانونيا على استقلاليتها، والمشمولات الواسعة التي تتمتع بها هي جزء من ترسيخ التحوّل الديمقراطي. ولكن نخشى أن تكون هذه الاستقلالية مدخلا لشلّ الدولة، ومما يفاقم عجزها عن تنفيذ مهامها الأكثر تقليدية. يمكن إخضاع هذه الهيئات إلى مبادئ الحوكمة والمساءلة وفق مبادئ الدستور والقانون، وهي مبادئ عامة، لا تخوّل لأي سلطةٍ كانت، بما فيها سلطة البرلمان مباشرة أي مساءلة أو رقابة على تلك الهيئات، من شأنها تبديد المخاوف تلك. ولكن يحتاج الانتقال الديمقراطي أيضا إلى دولةٍ قويةٍ قادرةٍ على فرض سلطانها بقوة القانون.


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

تونس، الهيئات الدستورية، الثورة التونسية،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 9-07-2017   المصدر: العربي الجديد

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
حسن الطرابلسي، سلوى المغربي، مصطفي زهران، محمد الطرابلسي، د - صالح المازقي، محمد اسعد بيوض التميمي، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، صلاح المختار، أحمد الحباسي، محمد الياسين، حسن عثمان، ماهر عدنان قنديل، محمد يحي، د. عبد الآله المالكي، رحاب اسعد بيوض التميمي، صالح النعامي ، صباح الموسوي ، د. مصطفى يوسف اللداوي، عزيز العرباوي، المولدي الفرجاني، د. عادل محمد عايش الأسطل، أحمد بوادي، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، سفيان عبد الكافي، د - الضاوي خوالدية، د- محمود علي عريقات، مصطفى منيغ، د - شاكر الحوكي ، العادل السمعلي، رضا الدبّابي، أحمد بن عبد المحسن العساف ، طلال قسومي، د- محمد رحال، رشيد السيد أحمد، محرر "بوابتي"، جاسم الرصيف، إياد محمود حسين ، رافد العزاوي، عبد الله زيدان، د. ضرغام عبد الله الدباغ، فهمي شراب، تونسي، فتحي العابد، محمد أحمد عزوز، محمود سلطان، حسني إبراهيم عبد العظيم، ياسين أحمد، وائل بنجدو، د - المنجي الكعبي، علي عبد العال، يحيي البوليني، عمار غيلوفي، عبد الرزاق قيراط ، سيد السباعي، محمود طرشوبي، إيمى الأشقر، د - محمد بن موسى الشريف ، عراق المطيري، حميدة الطيلوش، عمر غازي، صفاء العراقي، فتحـي قاره بيبـان، أشرف إبراهيم حجاج، د - عادل رضا، الناصر الرقيق، صفاء العربي، رافع القارصي، د. خالد الطراولي ، عبد الغني مزوز، محمد العيادي، أ.د. مصطفى رجب، إسراء أبو رمان، نادية سعد، منجي باكير، ضحى عبد الرحمن، محمد شمام ، عواطف منصور، د. صلاح عودة الله ، كريم فارق، سعود السبعاني، سامر أبو رمان ، د- جابر قميحة، أنس الشابي، كريم السليتي، سليمان أحمد أبو ستة، مجدى داود، محمد عمر غرس الله، د. كاظم عبد الحسين عباس ، أحمد النعيمي، الهادي المثلوثي، خالد الجاف ، فتحي الزغل، صلاح الحريري، د. أحمد بشير، حاتم الصولي، أحمد ملحم، الهيثم زعفان، د.محمد فتحي عبد العال، يزيد بن الحسين، د - محمد بنيعيش، رمضان حينوني، فوزي مسعود ، سامح لطف الله، مراد قميزة، خبَّاب بن مروان الحمد، د - مصطفى فهمي، علي الكاش، د. طارق عبد الحليم، د- هاني ابوالفتوح، عبد الله الفقير، أبو سمية، د. أحمد محمد سليمان، محمود فاروق سيد شعبان، سلام الشماع،
أحدث الردود
مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


It is important that issues are addressed in a clear and open manner, because it is necessary to understand the necessary information and to properly ...>>

وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة