د.شاذلي عبد الغني إسماعيل - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4811
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
أحمد مطر هو الشاعر الذي اختار أن يجعل من كلماته مدفعًا يواجه به الطغاة والبغاة ومصاصي دماء الشعوب .. كلماته البسيطة الساخرة ..الشديدة القسوة على المستبدين .. التي تعانق قلوب البسطاء في رقة ومرح أحيانًا والتي تقسو عليهم وتؤلمهم وتضحكهم من أنفسهم في كثير من الأحيان .. لغة المفارقة التي صار فارسها الأول والتي تجعل متلقيها معلقًا بالقصيدة .. معجبًا بها .. يردده بمتعة .. ويتلوها بشغف .. هذه هي بعض الأشياء التي جعلت لقصائده الشجاعة مذاقًا رائعًا ولاذعًا بقوة .. وخلاصة ما يمكن أن يقال إنه شاعر يحمل مشاعرنا .. آلآمنا ..هموم أحلامنا المحاصرة .. أحلام أفكارنا المراقبة ويصوغها شعرًا.
وإذا كانت السخرية هي المشكل لبنية القصيدة المطرية .. فإن مشاعر الألم التي يشعلها واقعنا العربي هي المشكل لبنية السخرية .. ولم تكن سجون الطغاة والمستبدين فقط هي التي تؤلم الشاعر .. هي التي تزلزله .. تعتصره شعرًا .. لكنه ـ أيضًا ـ صمتنا الذي يخلق مداميك هذه السجون ... خوفنا الذي يطلق قيودهم ويجعلها أكثر ضراوة وقسوة .. إحساسنا بالعجز الذي يضخم من إحساسهم بالقوة ..فرارنا الذي يلبسهم ثياب الشجعان .. لذلك نرى الشاعر يقسو علينا لكنها قسوة المحب ، الذي يكره أن يرى محبوبه راضيًا بمشاعر الضعف راضخًا لبشاعة الطغاة ، يقول الشاعر ‘ وإذا كنت قد ركّزت الجهد في تعرية أنظمة لا تملك أية شرعية ، فهذا لا يعني أنني تجاهلت الأساس الذي بنت عليه هذه الأنظمة صروح تسلطها وجورها إذ طالما نبّهتُ إلى أنّ فرعون لن يقول ( أنا ربّكم الأعلى ) إلاّ إذا رأى حوله عبيداً يطيعونه حين يُضلّهم ‘ :
أيها الشعب
لماذا خلق الله يديك ؟
ألكي تعمل ؟
لا شغل لديك.
ألكي تأكل ؟
لا قوت لديك.
ألكي تكتب ؟
ممنوع وصول الحرف
حتى لو مشى منك إليك
أنت لا تعمل
إلا عاطلاً عنك..
ولا تأكل إلا شفتيك
أنت لا تكتب بل تُكبت
من رأسك حتى أُخمصيك
فلماذا خلق الله يديك ؟
أتظن الله - جل الله-
قد سوّاهما..
حتى تسوي شاربيك ؟
أو لتفلي عارضيك ؟
حاش لله ..
لقد سواهما كي تحمل الحكام
من أعلى الكراسي.. لأدنى قدميك
ولكي تأكل من أكتافهم
ما أكلوا من كتفيك.
ولكي تكتب بالسوط على أجسادهم
ملحمة أكبر مما كبتوا في أصغريك.
هل عرفت الآن ما معناهما؟
انهض، إذن.
انهض ، وكشر عنهما.
انهض
ودع كُلك يغدو قبضتيك
نهض النوم من النوم
على ضوضاء صمتي
أيها الشعب وصوتي
لم يحرك شعرة في أذنيك
أنا لا علة بي إلاكَ
لا لعنة لي إلاكَ
انهض
لعنة الله عليك
إن مشاهد القصيدة المطرية تجرك جرًا حتى آخرها لتفاجئك ..أو لتصدمك ..وتجبرك على أن تضحك .. تضحك على الرغم من أنك مهموم بواقع النص أقصد أنك مهموم بنص الواقع ..تضحك لأن شر البلية ما يضحك ..وشرور البلايا مبثوثة في الهواء الذي نتنفسه في واقعنا العربي ..أولا يكون من الطبيعي بعد ذلك أن نضحك حتى الموت ؟:
ما تهمتي ؟
تهمتك العروبة
قلت لكم ما تهمتي ؟
قلنا لك العروبة
يا ناس قولوا غيرها
أسألكم عن تهمتي ..
ليس عن العقوبة
يحاول الشاعر في قصيدة أخرى أن يداري هذه العقوبة لكنه يفشل لأن آثارها بادية على جباهنا ، ولأن جراحها المرة لم تعد تخفى على أحد ، حتى في أقصى بقاع الأرض :
في بقعة منسية
خلف بلاد الغال
قال لي الحمال:
من أين أنت سيدي؟
فوجئت بالسؤال
أوشكت أن أكشف عن عروبتي،
لكنني خجلت أن يقال
بأنني من وطن تسومه البغال
قررت أن أحتال
قلت بلا تردد:
أنا من الأدغال
حدق بي منذهلا
وصاح بانفعال:
حقا من الأدغال؟
قلت: نعم
فقال لي:
من عرب الجنوب.. أم
من عرب الشمال؟
‘ الشعر ليس بديلاً عن الفعل، بل هو قرين له، هو فن من مهماته التحريض والكشف والشهادة على الواقع والنظر إلى الأبعد. وهو بذلك يسبق الفعل، ويواكبه، ويضيء له الطريق، ويحرسه من غوائل التضليل...’
هذه كلمات أحمد مطر الشاعر حتى في نثره ، وهذه خلاصة رأيه عن الشعر ، وهذا ما جعله ‘ ملك الشعراء ‘ كما يحب أن يطلق عليه البعض ، لقد ظل ملكًا لأن شيطان شعره أبى عليه أن يرضخ لقيود الخوف ، أو أن يستسلم لمشاعره المحرضة على الصمت ..ذلك الذي هو في واقعنا قرين السلامة :
شيطان شعري زارني فجن إذ رآني ،
أطبع في ذاكرتي ذاكرة النسيان
وأعلن الطلاق بين لهجتي ولهجتي ،
وأنصح الكتمان بالكتمان ،
قلت له: ‘كفاك يا شيطاني ،
فإن ما لقيته كفاني ،
إياك أن تحفر لي مقبرتي بمعول الأوزان ‘
فأطرق الشيطان ثم اندفت في صدره حرارة الإيمان ،
وقبل أن يوحي لي قصيدتي ،
خط على قريحتي ،
‘أعوذ بالله من السلطان ‘
حتى الذين لا يحبون قراءة الشعر من البسطاء يجيدون الاستماع لقصائد أحمد مطر ، وحتى في أقسى لحظات هذه النصوص قسوة بمتلقيها تجذبه إليها ..إن شعره هو توليفة من البساطة والقوة والدهشة والشجاعة وعمق الإحساس .
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:
22-07-2014 / 14:31:16 فوزي