د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4394
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه من خلقه وحبيبه ، اللهم صلي على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ،
أمـــا بعــد :
كنا قد تعرضنا في الحلقة الماضية للحديث عن الوصية بالتقوى ، وكيف أن المؤمن مهما بلغ إيمانه ، وصفت سريرته ، واستقام أمره ، عليه أن يتقبل النصيحة من أي أحد جاءته ، هكذا علمنا الإسلام ، وأهمية التقوى وعظيم مكانتها في الإسلام ، وكيف أن السلف الصالح رضوان الله عليهم عرفوا قيمة التقوى ، وعظيم شأنها ، فلم ينفكوا يتواصون بها في كل وقت وحين ، وذكرنا بعض النماذج لتلك الوصايا ، ثم تعرضنا لبعض خصائص التقوى ومميزاتها ، وتناولنا بعض ثمرات التقوى كما حددها القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة ، وفي هذه الحلقة نكمل من الحديث ما انقطع ، فنواصل الحديث باختصار عن بقية تلك الثمرات والنتائج المرجوة للتقوى في الدنيا والآخرة ، وذلك على النحو التالي :
5- المحبة : أي محبة الله والملائكة للعبد التقي ، ومحبة الناس أيضا لهذا العبد ، قال تعالى :{ بلى من اوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين}( آل عمران : 76 ) ، أي أن المتقي لله تعالى حقاً هو من أوفى بما عاهد الله عليه من أداء الأمانة ، والإيمان به وبرسله ، والتزم هديه وشرعه , وخاف الله عز وجل وخشيه فامتثل أمره وانتهى عما نهى عنه ، والله تعالى يحب المتقين الذين يتقون الشرك والمعاصي والآثام ، فتلك قاعدة هامة في التصور الإسلامي مؤداها أن الله تعالى يحب المتقين ، وتكررت تلك القاعدة في القرآن الكريم ثلاث مرات بنفس تلك الصيغة : " إن الله يحب المتقين " في ( آل عمران : 76 ) ، كما أشرنا ، وفي ( التوبة : 4 ) ، وفي ( التوبة : 7 ) ، وعلمتنا السنة المطهرة أن الله تعالى إذا أحب عبدا نادى جبريل أن يحبه ، ويحبه أهل السماء ثم يحبه أهل الأرض (1) ،
6- المعية (2) : بمعنى معية الله تعلى ونصرته للمتقي وتأييده له وتسديده ، قال تعالى {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }( البقرة : 194 ) ، وقال تعالى : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }( التوبة : 36 ) ، وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }( التوبة : 123 ) ، وقال عز من قائل : {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ }( النحل : 128 ) ، وكلها تؤكد على معية الله للتقي ، وهذه المعيّة – كما قال أهل العلم - هي معية نصرة وتأييد وتسديد ، وهو سبحانه وتعالى أعطاها للأنبياء المتقين ، فقال لموسى وهارون {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى }( طه : 46 ) ، وقال عن موسى عليه السلام : {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } ( الشعراء : 62 ) ، فهو معه فلا يخاف ولا يخشى شيئا ،
7- البركات من الله تعالى : فأهل التقوى يرزقون بركات من السماوات والأرض ، والبركة تكثير القليل ، أي أنها الكثرة ، الزيادة ، الخير ، العافية ، قال تعالى : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }( الأعراف : 96 ) ، وهذا معناه أنه وسّع عليهم في الخير ويسّره لهم بسبب التقوى ، أى لفتح الله لهم أبواب الخير من كلِّ وجه , تماما كقوله عز وجل : {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً }( الجن : 16 ) ، والمعنى : لو سار الكفار من الإنس والجن على طريقة الإسلام ، ولم يحيدوا عنها لأنزلنا عليهم ماءً كثيرًا ، ولوسَّعنا عليهم الرزق في الدنيا ، إما إذا لم تحصل التقوى ، فسيظهر الفساد والتخلف والعوز والفقر في الأرض كما قال تعالى : {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }( الروم : 41 ) ، تشير الآية إلى ظهور الفساد في البر والبحر, كالجدب وقلة الأمطار وكثرة الأمراض والأوبئة ، وتُنزع البركة وذلك بسبب المعاصي التي يقترفها البشر، ليصيبهم بعقوبة بعض أعمالهم التي عملوها في الدنيا ، كي يتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى ويرجعوا عن المعاصي , فتصلح أحوالهم , وتستقيم أمورهم ،
8- البشرى من الله للمتقين : سواء كانت تلك البشرى ثناء من الخلق ، أو رؤيا صالحة من الملائكة عند الموت ، قال تعالى : {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون أولئك لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة}( يونس : 62 – 64 ) ، وفي الحديث : " لم يبق من النبوة إلا المبشرات ؟ قالوا : وما المبشرات ، قال : الرؤيا الصالحة " ، { أخرجه البخاري ( 4 / 349 ) ، ( قال الألباني : وله طريق أخرى ، خرجتها في " الأحاديث الصحيحة " ( 468 ) ،
9- الحفظ من كيد الأعداء : فإن الإنسان لا يخلو في هذه الحياة من عدو حاسد ، وماكر مخادع ، قال تعالى : {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }( آل عمران :120 ) ، وإن تصبروا على ما أصابكم , وتتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه , لا يضركم أذى مكرهم ، فيدفع الله عنكم شر الأشرار وكيد الفجار باستعمال التقوى ،
10- حفظ الأبناء الضعفاء بعد وفاة عائلهم : قال تعالى {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً }( النساء : 9 ) ، فأرشد الله الآباء الذين يخشون ترك ذرية ضعافا بالتقوى في سائر شؤونهم لكي يحفظ أبناءهم ، ويغاثون بالرعاية الإلهية بل يحفظ فروع الفروع..!، وفي سورة الكهف تأكيد على هذه الحقيقة قال تعالى :{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً }( الكهف : 82 ) ، فانظر كيف فحفظ الله الأبناء بصلاح ذلك الأب ، يقول محمد بن المنكدر يرحمه الله : " إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد و لده ، وقريته التي هو فيها ، والدويرات التي حولها ، فما يزالون في حفظ الله وستره " ، قال ابن المسيب رحمه الله : " يا بني إني لأزيد في صلاتي من أجلك رجاء أن أُحفَظ فيك وتلا الآية : {وكان أبوهما صالحا}، طبعاً هو يصلي لله ، وابن المسيب افقه من أن يرجو على عمله فقط ثواباً دنيوياً ولكنه يرجو تبعاً للثواب الأخروي أمراً في الدنيا والله تعالى كريم يعطي أموراً في الدنيا والآخرة على العبادات ،
11- التقوى سبب قبول العمل وهذا من أعظم الأشياء : قال تعالى : { ......إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }( المائدة : 27 ) ، أجاب بها الأخ الصالح أخاه الفاجر الذي قتله ، وكان بعض السلف يقول : لو أعلم أن الله تقبّل مني سجدة واحدة لتمنّيت الموت ، قالوا له : وكيف ذلك ؟ قال : لأن الله تعالى يقول :{ إنما يتقبل الله من المتقين}.
12- التقوى سبب للنجاة من عذاب الدنيا : قال تعالى : {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ }( فصلت : 18 ) ، أي ونجَّينا الذين آمنوا من العذاب الذي أخذ عادًا وثمود , وكان هؤلاء الناجون يخافون الله ويتقونه ،
13- المكانة بين الناس : فإن التقوى يُجعل بها للإنسان حلاوة وشرف وهيبة بين الخلق لأن الإنسان يحب أن تكون له مكانة بين الناس ، ولذلك فقد قيل :
ألا إنما التقوى هي العز والكرم ** وحبك للدنيا هو الذل والسقم
وليس على عبدٍ تقي نقيصة ** إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم
14- أن التقوى توصل إلى مرضاة الرب عز وجل ، وتكفير السيئات والنجاة من النار والفوز بالجنة ، وهذا هو قمة المطلوب وأعلى مراد المسلم ، وهو أن الله عز وجل يدخله الجنة : فالتقوى تكفر السيئات وتدخل الجنة ، قال تعالى : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ }( المائدة : 65 ) ، كما قال تعالى : {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً }( الطلاق : 5 ) ، والنجاة من النار ، قال تعالى : {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً }( مريم : 72 ) ، وبالتقوى ينال التقي العز والفوقية فوق الخلق يوم القيامة غير عز الدنيا ، قال تعالى : {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }( البقرة : 212 ) ، فيورثون الجنة بالتقوى كما قال الله عز وجل : {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً }( مريم : 63 ) ، وهؤلاء المتقين لا يذهبون إلى الجنة مشياً وإنما يذهبون ركباناً موقرين مكرمين لأن الله قال : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ }( الشعراء : 90 ) ، وقال : {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً }( مريم : 85 ) ، يوم نجمع المتقين إلى ربهم الرحيم بهم وفودًا مكرمين ، فيدخلهم جنته ، قال تعالى : {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً }( النبأ : 31 ) ، وقال تعالى : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ }( القمر : 54 ) ، والدار الآخرة للمتقين يوم القيامة ، ويجمع الإنسان يوم القيامة بأحبابه إذا اتقى ربه ، قال تعالى : {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ }( الزخرف : 67 ) ، وهؤلاء في الجنة على سرر متقابلين كما قال الله تعالى : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {45} ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ{46} وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ{47} لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ{48}}( الحجر : 45 – 48 ) ،
وصفوة القول في البعد الأول لتلك الوصية النبوية التي تضمنها الحديث الشريف الذي نحن بصدده ، أن هذا البعد يتعلق المتمثل في قوله صلى الله عليه وسلم : " اتق الله حيثما كنت " ، إنما يحكم ويضبط وينظم علاقة العبد بربه ومولاه ، فمنه جل جلاله يأخذ المنهج ، وله يطيع ويراقب ، ولسخطه وغضبه وموجبات عذابه وانتقامه يتقي ويحذر ، ونسأل الله تعالى أن يلهمنا التقوى في كل وقت وحين ، ويوفقنا لها ، ويجعلنا من أهلها إلى أن نلقى وجهه الكريم ، فالتقوى – كما أسلفنا - هي الزاد الحقيقي ، والنهاية الحتمية لا بد أن تأتي بمفارقة هذه الحياة ، وصدق القائل :
عش ما بدا لك ســـــالماً *** في ظل شاهقة القصـور
يُسعى عليك بما اشتهيت *** لدى الرواح وفي البكور
فإذا النفوس تقـــــعقعت *** في ضيق حشرجة الصدور
فهناك تــــــــــعلم موقناً *** ماكنت إلا في غــــــــرور
* الوقفة الخامسة : وأتبع السيئة الحسنة تمحها ،
وننتقل إلى البعد الثاني من أبعاد تلك الوصية المحمدية الجامعة ، وهي قوله صلى الله عليه وسلم في وصيته : " وأتبع السيئة الحسنة تمحها " ، والمعنى الواضح لذلك هو أن المسلم إذا فعل سيئة ( كترك بعض الواجبات ، أو ارتكاب بعض المحظورات ) فعليه أن يسارع بالتوبة والاستغفار فإن التوبة تجب ما قبلها ، أوأن يعمل بعدها حسنة تمحها ، وتمح آثارها ، أي تمح عقابها من صحف الملائكة ، وأثرها السيء في القلب ، وهذا من فضل الله تعالى على عباده ورحمته بهم ،
وهنا – وهي النصيحة الثانية في الحديث الشريف - ينتقل السياق للحديث عن علاقة الإنسان بنفسه ، وكيف يتعامل المسلم مع نفسه وذاته من خلال حرصه على نجاتها ، عن طريق مجاهدتها لتستقيم على منهج الله ، وتحليتها وتزكيتها بمكارم الأخلاق ، وتخليتها من مساويء الأخلاق ، عملا بقول الله تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا }( الشمس : 9 ) ، أي قد فاز مَن طهَّرها ونمَّاها بالخير والصلاح والتقوى , {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا }( الشمس : 10 ) ، وقد خسر مَن أخفى نفسه في المعاصي والآثام والخطايا ،
- فالنفس الإنسانية بطبيعتها أمارة بالسوء قال تعالى : " {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ }( يوسف : 53 ) ، والمعنى أن النفس لكثيرة الأمر لصاحبها بعمل المعاصي طلبا لملذاتها , إلا مَن عصمه الله ، فهي مذنبة خاطئة ، ودائماً لو أطعتها وسلمت لها قيادك لأوردتك الموارد والمهالك ، فكلما عصت الله ، وكلما ارتكبت السيئة فأتبعها حسنة تمحها ، واجعل من نفسك رقيباً عليها ، وحاسب نفسك قبل أن تحاسب ، وزن أعمالك قبل أن توزن عليك ، وتزود للعرض الأكبر بين يدي الله تبارك وتعالى ، فهناك تبلو كل نفس ما أسلفت ، ولا شك أم مراقبة النفس ومحاسبتها مهمة في تجديد الإيمان ، وزيادته ، واسمع إلى قول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }( الحشر : 18 ) ، ولذلك روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وتزينوا للعرض الأكبر ، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا " ويقول الحسن لا تلقى المؤمن إلا وهو يحاسب نفسه، وقال ( ميمون بن مهران ) : " إن التقي أشد محاسبة لنفسه من شريك شحيح " ، وقال أيضا : " لا يكون العبد تقياً حتى يحاسب نفسه كما يحاسب شريكه من أين مطعمه وملبسه " ، وقال ابن القيم رحمه الله : " ، وهلاك النفس من إهمال محاسبتها ومن موافقتها واتباع هواها " ، ولذلك فلا بد أن يكون للمسلم وقت يخلو فيه بنفسه ، فيراجعها ويحاسبها وينظر في شأنها ، وماذا قدم من الزاد ليوم المعاد ،
- قال الإمام النووي في شرح الحديث : " إعلم أن ظاهر هذا الحديث يدل على أن الحسنة لا تمحو إلا سيئة واحدة ، وإن كانت الحسنة بعشر ، وأن التضعيف لا يمحو السيئة ، وليس هذا على ظاهره ، بل الحسنة الواحدة تمحو عشر سئيات ، وقد ورد في الحديث عن سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه ما يشهد لذلك وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " أيمنع أحدكم أن يكبر في دبر كل صلاة عشراً ، ويسبح عشراً ، ويحمد عشراً ، فذلك في خمس صلوات خمسون ومائة باللسان ، وألف وخمسائة في الميزان " ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : " أيكم يفعل في اليوم الواحد ألفاً وخمسمائة سيئة " دل على أن التضعيف يمحو السيئات ، وظاهر الحديث : أن الحسنة تمحو السيئة المتعلقة بحق الله تعالى ، أما السيئة المتعلقة بحق العباد من الغضب والغيبة والنميمة وغيرها ، فلا يمحوها إلا الاستحلال من العباد ، ولا بد أن يعين له جهة الظلامة ، فيقول : قلت عليك كيت وكيت (3) ، فعلى المؤمن إذا أخطأ خطيئة أن يتبعها حسنة فإنها تذهبها وتمحوها ، قال تعالى : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْل إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } (هود:114 ) ، ففِعْلَ الخيرات يكفِّر الذنوب السالفة ويمحو آثارها , ومن ذلك - أي إتباع السيئة بالحسنة - أن يسارع العبد المسيء ( المذنب ) فيتوب إلى الله من السيئة فإن التوبة حسنة ،
- ولقد بينت السنة تلك القاعدة بيانا شافيا على المستوى التطبيقي العملي ، ففي الحديث الشريف أن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " من حَلف فقال في حَلفه : واللاتِ والعُزّى ، فليَقل: لا إله إلاّ الله ، ومن قال لصاحِبِهِ : تعال أُقامِركَ ، فلْيتصدّق " ( رواه البخاري ) ، فانظر كيف أرشد صلى الله عليه وسلم إلى الحسنة التي يكفر بها السيئة التي اقترفها ، وأرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التصدق مذكراً أنها كفارة للسيئات ، بل هي من أعظم الكفارات فأمر النساء المعرضات إلى أنواع من الذنوب تدخل النار بالصدقة في معرض وعظه لهن فقال : " يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار .... الحديث " (4) ، وفي الحديث : " والصّدَقَةُ تُطْفِىءُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِىءُ الْمَاءُ النارَ "(5).
- قال بعض أهل العلم : أن هذه القاعدة الذهبية التي تتضمن " أن الحسنة بعد السيئة تمحها " هي قاعدة عامة في كل حسنة وسيئة إذا كانت الحسنة هي التوبة , لأن التوبة تهدم ما قبلها , أما إذا كانت الحسنة غير التوبة ، وهو أن يعمل الإنسان عملاً سيئاً ، ثم يعمل عملاً صالحاً ، فإن هذا يكون بالموازنة فإذا رجح العمل الصالح ( الحسنة ) على العمل السيئ زال أُثره ، كما قال تعالى " وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ " ( الأنبياء :47 )
- " الحسنة " اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله تعالى ويرضاه ، ولا شك أن أعظم الحسنات الدافعة للسيئات التوبة النصوح ، والاستغفار والإنابة إلى الله بذكره وحبه ، وخوفه ورجائه ، والطمع فيه وفي فضله كل وقت ، ومن ذلك الكفارات المالية والبدنية ، ومن الحسنات التي تدفع السيئات – وهي لا تحصى ولا تعد - العفو عن الناس، والإحسان إلى الخلق من الآدميين وغيرهم، وتفريج الكربات، والتيسير على المعسرين، وإزالة الضرر والمشقة عن جميع العالمين , ففي الحديث : " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر" ( رواه مسلم والترمذي وغيرهما ، وصححه الألباني ) ، وكم في النصوص من ترتيب المغفرة على كثير من الطاعات ،
- لا شك أن مما يكفر الله به الخطايا والذنوب : المصائب ، فإنه لا يصيب المؤمن من هَمٍّ ولا غم ولا أذى ، حتى الشوكة يشاكها ، إلا كفر الله عنه بها خطاياه ، وهي إما فوات محبوب، أو حصول مكروه بدني أو قلبي، أو مالي، داخلي أو خارجي، لكن المصائب بغير فعل العبد ، فلهذا أمره بما هو من فعله، وهو أن يتبع السيئة الحسنة ،
- قال بعض أهل العلم : " ....وهل يُشترط أن ينوي بهذه الحسنة أنه يمحو السيئة التي فعل؟ ، فالجواب : ظاهر الحديث: لا، وهذا من نعمة الله عزّ وجل على العباد ، ومن مقتضى كون رحمته سبقت غضبه ،
- ولكم لماذا بدأ بالسيئة؟ ، حيث قال " وأتبع السيئة الحسنة تمحها " قال بعض أهل العلم : بدأ بالسيئة لأنها هي المقصودة هنا، فعند التكفير يكون الاهتمام منصبا على السيئة، لا لفضلها ، ولكن لأنها المشكلة التي ينبغي حلّها ، وتتجه الهمة لإزالتها ومحوها ، فالمقصود – في الحديث - تعليم الناس كيفية تكفير السيئة ،
يتبـــــع إنشاء الله ،
****************
الهوامش والإحالات :
============
(1) – كما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إني قد أحببت فلانا فأحبه ، قال فينادي في السماء ، ثم تنزل له المحبة في أهل الأرض ، فذلك قول الله : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً } ( مريم : 96 ) ، وإذا أبغض الله عبدا نادى جبريل : إني أبغضت فلانا ، فينادي في السماء ، ثم تنزل له البغضاء في الأرض " ( صححه الألباني ، في صحيح سلسلة الأحاديث الضعيفة تحت الحديث 2207 ) ، وقوله ( ودا ) أي مودة منه ومن الملائكة وفي قلوب العباد ، وقيل : يجعل له محبة ومودة في قلوب عباده ،
(2) - معية الله للعبد تعني القرب والتأييد والحفظ ، وأصل كلمة ( مع ) تفيد معنى المقارنة ، والمعية نوعان : معية عامة لجميع الخلق ، قال تعالى :{وهو معكم أينما كنتم } ،أي مطلع عليكم شهيد عليكم ، ومهيمن ومحيط وعالم بكم ، وهذا معنى قول السلف : إنه معكم بعلمه وإحاطته ، ومعية خاصة : لأهل التقوى والإحسان والصبر والإيمان ، ومنه قوله تعالى :{لا تحزن إن الله معنا}، فتلك معية الإطلاع والقرب والتفرد والتأييد ودفع المكروه ، ومنه قوله تعالى : {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون }،
(3) - أبو زكريا يحيى بن شرف النووي : " الأربعون النووية " ، ج1 ، ص : 38 ، http://www.daawa-info.net/books1.php?id=3758&bn=151&page=19
(4) - ففي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو في فطر إلى المصلى ، فمر على النساء فقال : يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار ، فقلن : وبم با رسول الله ؟ قال : تكثرن اللعن ، وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن ، قلن : وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله ؟ قال : أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل ؟ قلن : بلى قال : فذلك من نقصان عقلها ، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ؟ قلن : بلى قال : فذلك من نقصان دينها " ( دواه البخاري ومسلم ) ،
(5) – الحديث عن جابر رضي الله عنه ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لكعب بن عجرة : " يا كعب بن عجرة الصلاة قربان ، والصيام جنة ، والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار ، يا كعب بن عجرة الناس غاديان فبائع نفسه فموثق رقبته ، ومبتاع نفسه في عتق رقبته " ( صححه الألباني وقال : رواه أبو يعلى بإسناد صحيح ) ، أنظر : - محمد ناصر الدين الألباني : " صحيح الترغيب والترهيب " ، مكتبة المعارف – الرياض ، ط3 ، ج1 ، ص : 211 ،
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: