د. أحمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5992
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ثالثا : تحذيرات القرآن الكريم من داء الغفلة والنسيان :
ولقد حذرنا القرآن الكريم من داء الغفلة والشرود عن معالي الأمور المتصلة بالخالق عز وجل وبالمخلوق، وحقيقة الإنسان ومهمته، والغاية التي خلق لأجلها، وحقيقة الحياة الدنيا وفلسفتها، والكون وطبيعته ومكوناته، والموت وحقيقته، والبعث والنشور والعرض والحساب 0000إلخ، و تعددت مواقف التنبيه والتحذير في القرآن الكريم، لتنتشلنا مما نحن فيه من أجواء الغفلة والتيه، والتخبط والإعراض عن منهج الله عز وجل، ولنقف أمام نموذجين وموقفين فقط من تلك المواقف، وردا في موضعين من القرآن الكريم لنرى كيف ينبهنا القرآن الكريم وكيف يذكرنا، وكيف يريد أن ينتشلنا من براثن التيه والغفلة ويضعنا أمام حقائق الكون والحياة والآخرة، فمنذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان هبط أمين وحي السماء ( جبريل عليه السلام ) على أمين الأرض والسماء سيد الخلق وحبيب الحق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بقرآن يتلى إلى يوم القيامة ينبه الغافلين ويحذر الشاردين المعرضين :
الموقف الأول : في صدر سورة الأنبياء، جاءت آيات بينات كريمات من عقلها وتدبرها علم ما زالت غضة طرية كما لو أنها تنزلت علينا اليوم، وما أحوجنا إلى تدبرها ومعايشة معانيها، نحن نعيش أوضاعا الله وحده بها عليم، نعيش أجواء الفرقة والإختلاف والصراع والتنازع والغفلة والإعراض، فكم من الناس اليوم على الدنيا يتصارعون، وفي سبيلها يتنافسون، وعلى ملذاتها وشهواتها ومغانمها يتقاتلون، إن الموقف الذي نحن بصدده تجسده ثلاث آيات في أول سورة الأنبياء حيث يقول الحق جل جلاله : {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ{1} مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ{2} لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ{3} ( سورة الأنبياء : 1-3 )، إنه موقف مهيب وتصوير تكاد تنخلع له القلوب، يخبرنا القرآن فيه عن دنو وقت حساب الناس على ما قدَّموا من عمل , لقد اقترب يوم الحساب أكثر مما يظن الغافلون التائهون، {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً، َنَرَاهُ قَرِيباً }( المعارج : 6 )، نعم إقترب يوم الحساب {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ }( آل عمران : 30 ) ومع ذلك فالكفار والفجار والطغاة والجبابرة وكثير من الناس يعيشون لاهين غافلين عن هذه الحقيقة , معرضين عن هذا الإنذار، وما من شيء ينزل من القرآن يتلى عليهم مجدِّدًا لهم التذكير, إلا كان سماعهم له سماع لعب واستهزاء، قلوبهم غافلة عن القرآن الكريم , مشغولة بأباطيل الدنيا وشهواتها , لا يعقلون ما فيه من الحكم والترغيب والترهيب والوعد والوعيد، وما هذا بصنيع العقلاء النابهين، وهكذا تصف الآيات حال الناس في حياتهم الدنيا – إلا من رحم الله تعالى – هذا الحال الذي يتسم بالغفلة، والإعراض، واللعب، واللهو، وكلها أمراض تصرف همة الإنسان وفكره وعقله عن حقيقة ما خلق له،
الموقف الثاني : ما نطالعه في صدر سورة ( الحج ) في الخطاب القرآني الموجه لعموم الناس على مختلف أجناسهم وألوانهم وألسنتهم في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ{1} يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ{2}وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ{3} كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ{4} ( سورة الحج : 1-4 )، إنها أربع آيات في كتاب الله عز وجل في أول سورة الحج، أنا أريدك أيها القاريء أن تعيش معها لحظات متدبرا ومتأملا، فإن فيها النجاة مما نحن فيه اليوم، نعم فيها النجاة – إذا تدبرناها وأيقنا بها، من أجواء الفتنة التي أصبحت تخيم على واقعنا اليوم، لقد بدأت الآيات بالأمر بالتقوى، التي هي ليست مجرد كلمة تقال، ولا مجرد لفظ تلوكه الألسنة دون أن تعي العقول معناه وخطورته، ودون أن توقن به القلوب، وإنما هي عقيدة وعمل، وفكر وممارسة، ومنهج وتطبيق، هي طوق النجاة، وسبب السعادة في الدنيا والفوز في الآخرة، حين نحذر عقاب الله عز وجل بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ثم تذكرنا الآيات بأهوال يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، إنه يوم القيامة، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل امريء منهم شأن يغنيه، يومها ينقسم الناس إلى فريقين لا ثالث لهما : الأول هم أصحاب الوجوه المسفرة، الضاحكة المستبشرة، والآخر : هم أصحاب الوجوه التي تعلوها الغبرة وترهقها القترة، أولئك هم الكفرة الفجرة،
نعم إنه نداء للغافلين علهم من غفلتهم ينتبهون، وإلى رشدهم يثوبون : إن زلزلة الساعة شيء – لو تعلمون - عظيم، إلى السادرين في غيهم، إلى الذين قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة، إلى أولئك الذين لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، إلى الذين استهانوا بالأرواح والأعراض والأموال، إلى المفسدين في الأرض، إلى أهل الغواية والضلال، إلى الذين أعلنوا الحرب على الله ورسوله، إلى إعلام الكذب والخداع والتشويه وقلب الحقائق، إلى الذين باعوا أنفسهم للشيطان بثمن بخس، إلى الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، قولوها عالية مدوية تهز الأرجاء : إتقوا الله إن زلزلة الساعة شيء عظيم،
ثم تواصل الآيات قوارعها التي تزلزل القلوب، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، 00000لا إله إلا الله، هل سمعت، هل استحضرت هذا المشهد المهيب، إنه قرآن يتلى، وأهوال تجسد، ومشاهد عجيبة وعصيبة تسوقها الآيات، وأنا أريدك أن تنتبه فالأمر خطير، والخطب جلل، والتحذير شديد، والوعيد واضح صريح لكل غافل متنكب للطريق، فانظر كيف تنسى الوالدة رضيعها الذي ألقمته ثديها، لماذا تنسى، لماذا تذهل، لما نزل بها من الكرب الشديد، فتذهل عن رضيعها الذي ما كانت يوما تذهل عنه مهما أصابها )، ثم ماذا ؟ وتضع كل ذات حمل حملها !!!، ( أي تسقط الحامل حملها من شدة الرعب والخوف والوجل والإضطراب الذي ألم بها مما تراه من أهوال ذلك اليوم ، ثم ماذا ؟ تتوالى الأهوال ) وترى الناس سكاري وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ( يومها تغيب العقول، وتتيه الأفهام، وتضطرب الأفئدة، فيصبح الناس كل الناس كالسكارى، من شدة الهول والفزع، وهم في الحقيقة ليسوا بسكارى من الخمر، ولكن شدة العذاب وهول الموقف أذهل الناس وأفقدهم عقولهم وإدراكهم، والعجيب أن من الناس من يعيش دنياه بطولها وعرضها دون أن يتفكر في هول هذا الموقف، من الناس من لا يرتدع بآيات الزجر والوعيد، نعم من الناس من لا تؤثر فيه نيران الوعيد ( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد ) إنه يجادل ولكن بغير علم، ويتبع كل شيطان متمرد على الله ورسوله فما هي النتيجة ( كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير ) فلقد قضى الله على الشيطان وقدر أنه يضل كل من اتبعه وتولاه ولا يهديه إلى الحق، بل يسوقه إلى عذاب جهنم جزاء إتباعه إياه ،
وفي الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اقتربت الساعة ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصا، ولا يزدادون من الله إلا بعدا " ( صححه الالباني) (1)
- سوء العاقبة لمن نسي ربه وغفل عن ذكره :
لقد بين القرآن الكريم في أكثر من موضع أن الغفلة والنسيان يؤولان بالإنسان إلى سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، فالقرآن الكريم يعلمنا :
- أن داء الغفلة والنسيان من أسلحة الشيطان لإغواء الإنسان وإضلاله وإيقاعه في المحظور، قال تعالى :
{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }( الأنعام : 68 )، فالآية الكريمة خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أنه إذا رأى المشركين الذين يتكلمون ويخوضون في آيات القرآن الكريم بالباطل والاستهزاء والسخرية والتهكم , فليتجنبهم وليبتعد عنهم تماما، حتى يأخذوا وينخرطوا في حديث آخر, وإذا ما أنساه الشيطان هذا الأمر ( وهذا وارد لأن الشيطان يغوي وينسي )، فعليه ألا يقعد بعد تذكره مع القوم المعتدين الظالمين المستهزئين , الذين تكلموا في آيات الله بالباطل،
- أن النسيان الذي حدث لآدم بوسوسة إبليس اللعين له، كان السبب الرئيسي في نزول آدم عليه السلام من الجنة، رغم أن الله تعالى قد حذره من إبليس وألاعيبه ووسوسته، قال تعالى : {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً }( طه : 115 )، فالله تعالى كما أخذ العهد على نبيه آدم عليه الصلاة والسلام وأوصاه وشدد عليه الوصية أن لا يأكل من الشجرة فنسي آدم وترك عهد الله عز وجل، ( ولم نجد له عزما) أي حزما وصبرا عما منعناه عنه، والمعنى لم نجد له قوة في العزم يحفظ بها ما أُمر به،
- أن من أوصاف المنافقين وسماتهم أنهم نسوا الله تعالى فحرمهم من رحمته ولطفه :
قال جل جلاله :
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }( التوبة : 67 )، فالمنافقون هم قوم نسوا الله فلا يذكرونه , فنسيهم الله من رحمته, فلم يوفقهم إلى خير، ولقد قال الله تعالى فيهم : {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً }( النساء : 142 )،
- أن الإعراض عن آيات الله تعالى ونسيان الإنسان لمعاصيه وذنوبه وعدم التوبة منها لهو أشد أنواع الظلم قال تعالى :
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً }( الكهف : 57 )، ولا أحد أشد ظلمًا ممن وُعِظ بآيات ربه الواضحة، فانصرف عنها إلى باطله، ونسي ما قدَّمته يداه من الأفعال القبيحة فلم يرجع عنها،
- أن نسيان آيات الله والإعراض عنها في الدنيا جزاؤه العذاب الأليم في الآخرة، قال تعالى :
{قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى }( طه : 126 )، أي أن الله تعالى يقول لمن أعرض عن ذكر الله في الدنيا فحشر يوم القيامة أعمى : إنما حشرتك أعمى، لأنك أتتك آياتي البينات , فأعرضت عنها, ونسيتها ولم تؤمن بها, وكما تركتَها في الدنيا، فكذلك اليوم تُترك في النار،
{فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }( السجدة : 14 )، والمعنى – كا جاء في تفسير والله أعلم - أنه يقال لهؤلاء المشركين -عند دخولهم النار-: فذوقوا العذاب، بسبب غفلتكم عن الآخرة وانغماسكم في لذائذ الدنيا , إنا تركناكم اليوم في العذاب, وذوقوا عذاب جهنم الذي لا ينقطع، بما كنتم تعملون في الدنيا من الكفر بالله ومعاصيه،
- أن من نسي لقاء الله تعالى فجزاؤه يوم القيامة جهنم وساءت مصيرا، قال تعالى :
{وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ }( الجاثية : 34 )، أي وقيل لهؤلاء الكفرة : اليوم نترككم في عذاب جهنم, كما تركتم الإيمان بربكم والعمل للقاء يومكم هذا, ومسكنكم نار جهنم, وما لكم من ناصرين ينصرونكم من عذاب الله،
===============
الهوامش :
======
(1) - محمد ناصر الدين الألباني : " السلسلة الصحيحة "، مكتبة المعارف – الرياض، (د.ت )، ج 4، ص :15
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: