د. ضر غام الدباغ - برلين
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7428
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
وردتي رسائل عديدة تحمل ملاحظات وأراء من أصدقاء وأخوة، حول كتاباتي عن الانتفاضات / الثورات العربية، لا سيما " هل هناك أفق لديمقراطية عربية " سرتني كثيراً، فالاهتمام والملاحظات حول المقالات، فهو دليل حيوية فكرية ومؤشر طيب على تفاعل مطلوب في خضم أحداث جسيمة تشهدها ساحات أمتنا العربية، تؤكد وحدة الشعارات وحدة مصيرها. هو مخاض صعب ستجتازه أمتنا كما اجتازت الكثير من المحن والأزمات عبر تاريخها الطويل، ستجتازه بعد أن تلفظ الطارئ، والسطحي، وستخرج الأمة أقوى كثيراً مما كانت عليه.
يهمني أولاً أن أتقدم ببضعة حقائق أجدها مسلمات، لتكن القاعدة التي أرتكز عليها في إيضاحي وما قد ألتبس إدراكه، وربما فهمه.
1. عبر اثنا عشر مقالة هي في الأصل مقابلات تلفازية في الفضائيات العربية، أو ندوات ومحاضرات، عن الثورات التي اجتاحت وما زالت تفاعلاتها تدور في أقطار عربية عديدة في المشرق والمغرب( تونس ـ مصر ـ ليبيا ـ العراق ـ اليمن ـ سوريا). أكدت وما زلت، أن العناصر المشاركة في هذه الثورات/ الانتفاضات/ الحركات، هي أطراف واسعة من مجتمعات تلك الأقطار، ربما تمتد من أقصى اليمين لأقصى اليسار، تضم إسلاميين معتدلين(يقبلون بأنظمة مدنية) إلى إسلاميين سلفيين، إلى إسلاميين متشددين، إلى قوميين، إلى ماركسيين، وأحزاب شيوعية وعمالية، وأحزاب وطنية تحررية، ونعرف بعضهم معرفة شخصية، وآخرين نتابع أعمالهم وكتاباتهم منذ سنوات.
2. إذا أقرينا هذه كمسلمة، اشتراك أحزاب وحركات كثيرة وفئات متعددة في الانتفاضات، فهذا يعني استحالة وجود مهندس واحد وراء هذه الأحداث، بل وتنسيب هذه الحركات لمهندس واحد هو أمر معيب للحركات الوطنية والقومية وللأنظمة في أقطارنا، فهل من المعقول أن تستطيع جهات أجنبية(أمريكية / غربية / صهيونية) أن تهندس لكل هذا الإعصار... ونحن عنه غافلون ..؟
وبتقديري أن بعض الحركات اندلعت عفوياً، ولكن النسمة تحولت إلى زوبعة، ثم إلى عاصفة، وهو أمر ليس نادر الحدوث في التاريخ، بسبب غباء السلطات والأجهزة الأمنية، وأخطاء القيادات في التعامل معها، قبل حدوثها، وساعة حدوثها وبعد وقوعها. وباختصار:
* فهي عفوية تماماً في تونس، وفي سورية، جاءت من جماهير تعرضت للقمع ولعقود كثيرة، وهي نتيجة لتراكمات طويلة، من قمع دموي، وفساد سياسي ومالي واستئثار عائلي بالسلطة، وإلغاء دور المجتمع السياسي، في بلاد كل شيئ فيها ممنوع إلا ما تقرره السلطات.
* في مصر، نظام يتآكل منذ سنين ويطلق العديد من الوطنيين إشارات الإنذار، واحتدام يتراكم، ورئيس لا يريد أن يستمع لأحد، عازم على التوريث رغم شعوره بمخاطر ذلك، وفساد بلغ حداً لا يمكن قبوله، وأصبح الوضع كقنبلة جاهزة للانفجار.
* في العراق ثورة منذ حلول الاحتلال، تطل بأشكال مختلفة من قتال ومقاومة، إلى تظاهرات واعتصامات، تعبر بصفة عامة عن رفض الشعب العراقي ومقاومته للاحتلال ونتائجه، ولكن المحتلين والحكومات لا يريدون التسليم بهذه الحقيقة، فيعالجون حالة متقدمة، بعلاجات تافهة.
* في اليمن احتقان، له أسبابه العديدة، منها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعجز الحكومات المتعاقبة عن إيجاد وصفة العلاج الصحيحة، وليس لدى السلطات من رد على التذمر سوى الضرب بيد من حديد، وهو ما لم ينفع في نهاية المطاف.
* وفي البحرين فالحركة هناك ليس لها مطالب سياسية / اقتصادية، بل هي إثارة شغب تشحن من إيران بهدف التدخل المباشر لإلحاق البحرين بالإمبراطورية الفارسية التي اختارت المسوح الديني لتوسعها.
3. نلاحظ إذن ببساطة استحالة أن يكون مهندس واحد وراء الحركات / الانتفاضات، ناهيك اختلاف المصالح والرؤية (الغربية / الصهيونية/ الإيرانية) تجاه أي من الأنظمة التي واجهت وتواجه الانتفاضات. ولكن من الصحيح جداً القول وقد أكدت ذلك في كافة كتاباتي، أن الثورة وعندما تحولت من شرارة صغيرة إلى حريق ألتهم الحقل كله، قاد لتدخل شتى القوى الخارجية (بالطبع بنسب مختلفة في كل قطر) في هذه الانتفاضات في محاولة لركوب الموجة، فجربت عبثاً وبشتى الوسائل أن تحوز فيها على مراكز قيادية، لتتمكن بالتالي من إمكانية توجيهها بما يتفق مع مخططاتها، ولكنها في كل الأحوال هللت في البداية لأنها اعتبرت أن الأقطار الثائرة تمر باضطرابات قد تؤدي إلى فقدان البوصلة السياسية ثم إلى نفق فوضى سوف لن تخرج منه إلا بعد سنين، بيد أن تلك الرؤية خابت عندما طردت الجماهير الوزيرة كلنتون من تونس، ثم من مصر. وها هي التطورات الإقليمية تدور في غير صالح الصهاينة، ومن ثم يبدون تشاؤمهم من المستقبل. أما في عن سوريا، فذلك واضح حتى لمن لديه عين واحدة، أن الغرب وإسرائيل لا يودان رحيل النظام، ولكن مالعمل والنظام تتحطم قبضته الفولاذية مع نظريته الأمنية التي شيدها خلال 41 عاماً، القائمة على الترويع والصدمة، وهو يوشك على التهاوي. القوى الأجنبية تعمل بسياسة براغماتية، لا أصدقاء لديها، المصالح أبقى وأهم، فيمسكون العصا من حيث تميل لمصالحهم، وربما يوماً يمسكونها من الوسط، لتميل حيث تميل الأقدار، ثم ليميلوا ويصبحون ضده، كما صاروا ضد مبارك بعد عقود طويلة من التعاون الممتاز والصداقة الحميمة.
4. أركز في كافة أعمالي(المقالات والبحوث والمحاضرات والكتب) التركيز على أمر أعتقد أنه جوهري، ولا بأس من إعادته في هذا المجال. هو أن الديمقراطية مصطلح غربي نتاج الحضارة الغربية / المسيحية، وقد درج الناس على فهمه بصفة ابتدائية كونه آلة لتداول السلطة، وهذا الفهم ليس بخطأ ولكنه نصف الحقيقة، والأصح أنه نظام سياسي / اقتصادي متكامل وجد تطويره بعيد حركة مارتن لوثر الاحتجاجية، وضعف مكانة الكنيسة في السلطة السياسية، تطور على يد العالمان الاقتصاديان البريطانيان آدم سمث (ِ1723/1790) وديفيد ريكاردو(1772/ 1823)، ولا أظنه يناسب أقطارنا العربية بحذافيره، لذلك فإني أركز على أهمية تطوير نظرية حكم وسياسة عربية، وأعتبرها من مهام علماء السياسة العرب، على أساس وقاعدة من تراث ثري في حضارة أمتنا العربية وأرثها الفكري والسياسي. حيث تدرس في كليات العلوم السياسية في الجامعات العربية التراث الفلسفي الأوربي: الإغريقي / الأوربي الحديث، في حين تكتفي بتدريس نصوص فكرية أو تاريخ إسلامي قديم.
هناك أعمال ومحاولات(منها عدة أعمال لي) لصياغة فكر سياسي عربي يقوم على الفكر والثقافة العربية / الإسلامية، وعصرنة الأفكار التي تصلح لصياغة نظرية حكم عربية من صميم الفكر العربي وتلبي حاجات المجتمع العربي، ولكن هذه الأفكار بحاجة لانتشار وتعميم وتداول، حتى يتحقق وعي فكري/ سياسي /قانوني.
5. لا يهم كثيراً التركيز على أسماء الأفراد، لنركز على جوهر العملية، ولا أعتقد أن اثنان يختلفان على حجم الفساد الكبير في العملية السياسية / الاقتصادية / الاجتماعية الدائرة في الأقطار التي شهدت الانتفاضات. ضرورة التوصل لنظام حكم عربي يضمن تداول سليم وآمن للسلطة، نظام يكفل استقلال السلطات الثلاث(التشريعية/ التنفيذية / القضائية)، يبعد عن مجتمعاتنا شبح الانقلابات والتغيرات الدموية العنيفة، وهو ما ينجم عنه تعثر تقدم أقطارنا الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. الجماهير سأمت كل ذلك، وسأمت أن يفكر ضابط مخابرات عوضاً عنها ويقرر ما ينبغي أن تقرأ، وما يطعمها وما يلبسها، ويمنعها من السفر متى يشاء، ويسجن من يشاء، ويهب الحرية لمن يشاء، هذا هو صلب وجوهر الأزمة الدائرة رحاها، ومن أجله تخرج الجماهير يومياً بالآلاف تعرض نفسها للموت من أجل الخلاص ... إنهم يريدون الخلاص، ولابد من احترام إرادتهم وشجاعتهم. هم يشاهدون بالتلفاز يومياً (وهذا فضل التكنولوجيا) كيف تخرج شعوب العالم للانتخابات، وكيف تختار من تريد، يخبرهم أولادهم المنتشرين في بلاد الأرض عن أوضاع المجتمعات التي يعيشونها، يشاهدون أوطاناً حرة ومواطنين أحرار، فيحسدونهم .... ما المانع أن نعيش مثل سائر خلق الله ..؟
قرأت مرة مسرحية برتغالية، عن أيام الديكتاتور سالازار، أن الأرض ترفض أن تمنح الغلة في ظل الديكتاتورية، والأبقار تعزف عن در الحليب. الديكتاتورية إهانة للإنسان ألغيت من تاريخ البشرية، تتوقف الحياة ليتمتع بها الطاغية وحفنة من حاشيته، المهان المتعرض للقمع لا يستطيع أن يفكر وأن يعمل...!
أصل الآن إلى الجزء الذي أريد فيه توجيه الرد لما وردتني من تعقيبات.... وأرد فيها موضحاً على المقالة:
1. ذكرت في كافة مقالاتي، أن الانتفاضات هي دعوة شعبية عامة، لذلك يسهل أن يتسلل إلى صفوفها ، لصوص وبلطجية، وجواسيس وشذاذ آفاق، ففي خضم ملايين أو مئات الألوف من البشر يمكن أن يكون أي شيئ، ولكن اللصوص يمكن أن يشيعوا الفوضى وأعمال السرقة، ولكنهم لا يصنعون الغد.
2. لست من يقول عهد الأنظمة المطلقة قد انتهى، بل وقائع التاريخ، لنلاحظ كم من الأنظمة المطلقة انتهت في أوربا والعالم بعد الحرب العالمية الثانية: ألمانيا، إيطاليا، أسبانيا، النرويج، البرتغال، هنغاريا، الأرجنتين، تشيلي، البرازيل، الدومنيكان، كوبا، وطائفة من الديكتاتوريات العسكرية التي عصفت طوال الخمسينات والستينات وحتى السبعينات في أميركا اللاتينية.
3. نظرية العقد الاجتماعي، نظرية حكم راقية، وكل نظام يعتمد على الدستور هو نظام تعاقدي، ولكن المشكلة هي أن الدساتير غير محترمة في كثير من الدول. أما نظام الحكم في الإسلام فهو تعاقدي، لأن الحاكم (الخليفة/ الإمام/ الأمير/ السلطان/ الرئيس...الخ بغض النظر عن التسمية) يقسم اليمين على الحفاظ على الشريعة والدفاع عنها، وهي شرط مهم من شروط البيعة.
4. لم أكن أصور أن هناك من يدافع عن الاستبداد، نعم بالطبع وبالتأكيد لا يوجد مستبد عادل، والأمر واضح، فالاستبداد فضاضة وإنكار لدور الآخرين، واحتقار لأرائهم، فكيف يكون عادلاً ..؟
5. نعم من الضروري أن يتمكن الشعب من أي يقول للحاكم المستبد كفى، وطالما يتناول الرئيس راتباً، فهو بالطبع موظف.
6. في تونس، الرئيس بن علي مدد رئاسته لأكثر من 24 عام، خلافاً للدستور فكيف يكون إذن الاستبداد..؟
7. الولايات المتحدة لم تتخلى عن الرئيس مبارك دفعة واحدة، فهو خيارها المفضل، بل هي دعته لتفهم الظروف من حوله، ولكنه أصر على التصرف بطريقته الخاصة فحدث ما حدث، والأمريكان حاولوا التسلل لميدان التحرير عبر عملاء لهم للاستيلاء على الموقف، أو على جزء منه، ولكن الأمر لم يطل، فأنتهي كل شيئ بسرعة.
8. نعم الانتفاضة ركزت على شعارات تطهير البلاد وإقصاء المفسدين، وتوفير العيش الكريم، ولكنها لم تخلو تماماً من الشعارات القومية والإسلامية.
9. عندما بدأ العقيد القذافي بقمع الاحتجاجات، يلاحقه هاجس مصير سلفه الرئيس بن علي، واشتدت قسوته لدرجة استخدام القوات الجوية، كانت بالطبع فرصة لفرنسا التي تطمع لدور كبير في منطقة المتوسط، عدا طمعها بالاحتياطيات النفطية، والعقيد أضاع الكثير من الفرص وتجاهل الكثير من النصائح، إذ أعتقد أن بوسعه قمع الحركة كالتي قبلها، فحدث السيناريو المعروف.
10. نعم زيارة السفير الأمريكي لحماة حركة خبيثة فهي لم تدعم الانتفاضة ولم تنفع النظام، بل نفعت الولايات المتحدة إذ جعلت من موقفها مرغوب من الطرفين.
11. هل النظام الديمقراطي(الغربي) ينطوي على عيوب..؟ نعم وقد أشرنا لذلك على نحو واضح.... والواقع لا توجد وصفة صالحة للتعميم، وقد بينا ذلك أيضاً، فكل دولة تصيغ دستورها على نحو يلبي مصالحها ويحفظ أمنها، وسلامة العملية السياسية وإبعادها عن المغامرة والمجازفة.
12. نعم أظن نحن بحاجة لرئيس ينتخبه الشعب، عبر عملية قانونية / دستورية حقيقية تناسب ظروفنا السياسية، يمتلك مواصفات خاصة، أهمها غيرته الوطنية والقومية، ومواصفات القيام بقيادة الشعب.
13. حزب البعث العربي الاشتراكي، حزب قومي اشتراكي ديمقراطي، والانتخابات الحزبية كما أعلم تمتد من أصغر الخلايا الحزبية إلى أعلى القيادات، وهي أبرز دليل على ديمقراطية الحزب، وكانت تجري حتى في أوقات الحرب والحصار.
14. النظام السياسي في العراق لا يمكن قياسه على هذه الأسس، فقد كان النظام يجتاز مرحلة التحرر الوطني، وفي تصادم مع الإمبريالية وحلفاءها.
وقد نجح في تحقيق الكثير من المنجزات السياسية والاقتصادية، وحقق نقلة مهمة في مجالات كثيرة، وإني لأعجب أن يضع البعض أسماء القادة ستالين، وجمال عبد الناصر وصدام حسين، إلى جانب هتلر وموسوليني.
15. مبدأ الشورى في الإسلام هو أقدم مبدأ ديمقراطي أمكن تنفيذه في التاريخ، والشورى نظام يكفل انتخاب الأصلح في عملية سياسية نظيفة، وقد أنتخب كافة الخلفاء الراشدين الأربعة انتخاباً شوروياً / ديمقراطيـاً صحيحاً. فالانتخاب كان يتم عبر عهد وبيعة، والبيعة لم يكن يشترك فيها كافة الشعب لاستحالته في تلك الظروف، لذلك كانت البيعة تتم من أهـل الحل والعقد، ومن قبل الصحابة والفقهاء، وهو ما يمنح أكبر مساحة من النزاهة للعملية الانتخابية، لذلك لم يحدث وأن أعترض أحد على نزاهة العملية.
16. البشرية بأسرها مستفيدة من التقدم العلمي والتكنولوجي، ولو نطالع فقط أرقام الرحلات الجوية في العالم(مليارين ونصف تقريباً عام2010)، وهي تنقل الأفراد والسلع والمنتجات لتملكنا العجب، وهي أرقام مذهلة، والتقدم في العلوم الطبية، وسواها كثير، ولكن هناك بالطبع استخدام شرير لمنـجزات العلم، وهي إساءة للتقدم دون ريب.
وبكلمة موجزة، قد أشرت لها مراراً في مقالاتي، أن العالم يتحول بسرعة كبيرة، فالمعطيات السياسية والاقتصادية والعسكرية في تحول سريع، في كافة أرجاء ودول العالم، وأني لأعتقد أن الأمة العربية في مرحلة مخاض صعبة، ولكني على ثقة مطلقة بقدرة شعبنا العربي على بلوغ نتائج ممتازة، ستكفل وضع أمتنا على طريق جديدة، وما نحن بحاجة إليه الآن هو تكثيف العمل المشترك والتمسك بالثوابت الوطنية والقومية، والوقوف بصلابة ضد التدخل الأجنبي أي كان لونه ودواعيه.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: