الثورة المصرية، حتى وقتنا هذا، فشلت بكل مقاييس الفشل، وبكل معايير الثورات. وهو ما سبق أن حَذّرنا منه، منذ فبراير 10، 2011، ثم ردّدناه مِراراً بعد ذلك. معيارُ النَجاح الأول هو تحقيق الهدف، لا أقل منه، ومعيار الفَشل هو عدمُ تحقيقه، ولو تحقق أقل منه. كما أن معيارَ نجاح الثورات هو إخلاءُ السّاحة السياسية من كافة الوجوه القديمة، وتولى قادة الثورة مقاليد الحكم، ثم، البدء في تغيير كافة التشكيلات البائدة، والمؤسسات البالية، رؤوسٍ وقيادات. وبهذا يمكن الحُكم على النَجاح أو الفَشل لأي عمل، أو ثورة، بغضّ النظر عن الضّجة الإعلامية، التي قد تشوّش الحقيقة في عقول الشعب، أو العاطفة الجياشة التي قد تبدل الفشل إلى نجاح، أو الهزيمة إلى نصر، وما نكسة 67 ببعيد.
الثورة المصرية لم تحقق أهدافها، إلا إن إختزلنا هدفها في إزاحة مبارك وعائلته عن مقر القيادة في مصر، ليس إلا. أما إذا رأينا أن هدف الثورة، ككلّ ثورة، أن تحقق المِعيار الذي ذكرنا كدليل نجاح الثورات، فإن الثورة المصرية تكون قد فشلت فشلاً ذريعاً. الساحة السياسية لا زالت ذات الوجوه القديمة تتحكم فيها، وهي وجوه أنصار مبارك في مجلس العسكر، الحكام الحقيقيون في البلاد. لم يتولي أي وجه ثورىّ أي منصبٍ قياديّ، بل حتى رئيس الوزراء عصام شرف، هو وجه قديمٌ من وجوه الحزب الوطني. ولا نحتاج، في هذ الصّدد، إلى ذكر النائب العام والقيادات الجامعية، وأجهزة أمن الدولة، بل وقيادات الداخلية التي تدير أعمال البلطجة من مواقعها الرسمية! ومثلها الإعلام وغيره من المؤسسات العامة والحساسة، ما يطول ذكره.
الهدف من الثورة لم يتغير، ولا يجب أن يتغير. لكن الأمر أنّ تحقيق الهدف يحتاج إلى زَعامة تقوده، وتحفظُ عليه بوصلة تحركاته، وهو ما تفتقده هذه الثورة حتى الآن. الأحزاب والجماعات، كلها بلا استثناء، تعمل على إفتراضية أن الثورة قد نجحت، وأنّ دورها اليوم قد تحدد في النظر إلى تحقيق مكان لها، ولأيديولوجياتها، بمكانٍ على الساحة السياسية الجديدة. وهذا إفتراضٌ خاطئ لن يؤدى إلا إلى تراجع إحتمالات نجاح الثورة، وتعاظم إحتمالات انتصار النظام المُباركيّ، الذي لا تزال قبضته مطبقة على كافة جوانب الحياة في مصر، سياسياً وإقتصادياً وعسكرياً.
يجب على القوى العاملة على الساحة السياسية، أن تدرك، قبل فوات الأوان، وقبل إقرار قوانين دستورية، تصدرها قوى مباركية تضمن ترسيخ أوتاد النظام إلى الأبد، أنّ عليها إشعال الثورة من جديد، الثورة الحقيقية، التي تقود وتغير، لا التي تهتف وتنسحب. والشعب، كل الشعب، معباٌ ومستعد لمثل هذه الثورة، فهو يدرك تمام الإدراك، أن ثورته قد فشلت، أو، لو أردنا التخفيف، قد سُرقت، وسحبت السجادة من تحت قدميه، بكاملها. والشعب اليوم، يترنح في تصرفاته، وفي ردود افعاله، يبحث عن طريقة لإخراج غضبه، في صورة مليونية أو أخرى، أعراضٌ شتى لمرضٍ واحدٍ، اليأس من الوضع القادم، وبداية تفجّر شَعبيّ جديد. والفطنة أن ترى الكارثة وهى مقبلة، لا أن تصفها وهي مدبرة.
الجماعات الإسلامية، لم تر ما يحدث قبيل 25 يناير، ففاتتها قيادة هذه الثورة، ومن ثم استكمال الثورة طريقها حتى النصر. والظاهر أنّ هذه الجماعات، مثلها مثل الأحزاب والإئتلافات العلمانية، ستتخلف مرة أخرى عن قطار الثورة الشعبية. فإن ما يجرى على الساحة الآن ظاهرٌ في مدلوله، لمن يحسن قراءة الواقع، وتحليل معطياته. وما هذه التظاهرات التي تجرى الآن على الساحة بشأن الإعتداء الإسرائيليّ إلا متنفسٌ لهذه الثورة التي تتجمع سحبها، وتتلاقى مواردها، لتصب جامّ غضبها، في القريب على كلَ شيئ يتحرك، على طريقة "علىّ وعلى أعدائي".
هذا الواقع، الذي يغيب، مرة أخرى، عن عيون وعقول أهل السياسة في مصر، ينذر بشرٍ مُستطير. شرٌ نودّ لو يتمكن المخلصون من توجيهه وإحسان استخدام طاقته في الوصول إلى الهدف والبلوغ بالثورة مرساها، بدلاً من إهدارها كما حدث في المرة السابقة.
لاشك أن الخوف الذي تعيشه قيادات هذه الجماعات والأحزاب، من مواجهة العسكرن هو المانع الحقيقيّ من أن يتقدم أحدها لقيادة الصفوف، ويجعلها تتوارى كلها تحت شعارات "الإستقرار"، و"الأمن"، و"تجنب الفتنة والوقيعة"، ومثل هذا الهراء، الذي لو صحّ، لكان أولى بنا الحفاظ على "الإستقرار"، و"الأمن"، و"تجنب الفتنة والوقيعة" أيام مبارك، فلا فرق بين الإثنين، وهو ما يحتجٌ به أنصار مبارك، وبعض رموز السلفية إلى اليوم. وهذا الخوف، إلى جانب أنه عارٌ على هؤلاء جميعاً، لعدم ثقتهم بالله سبحانه وبوعده، هو دليل على عدم ثقتهم في الشعب، واستمرار انغلاقهم على أنفسهم، بفكر الجماعة، لا بفكر الشعب، وهو ما سبق أن حذرنا منه، وبينا أنّ فكر "الجماعة" لم يعد له محلٌّ في المنظومة السياسية المأمولة، إلا لمن أراد، أو تعودّ، أن يعيش في ظلً الإرهاب والقمع، وعجز أن يطوّر نفسه ليواكب المعنى الحقيقي للثورة، ويعمل على إنجاحها.
الوسيلة الوحيدة التي أمام شعبنا هي أن يحدد الهدف تحديداً دقيقاً، وأن يحثّ قياداتهن أيا كانت، أن تقوم بتكوين مجلس ثورىّ أعلى موحد، تنتظم تحته القيادات حسب قوة تمثيلها، وأن يقود هذا المجلس الخروج السلميّ، أولاً، لإسقاط النظام المباركيّ، بعد أن سقط مبارك، وتوجيه الأمر إلى العسكر بالرجوع إلى ثكناتهم، ثم تولى السلطة، وتعيين حكومة ثورية جديدة، تطيح "بالخائب العام"، وبالعيسوى، وبهيكل، وبغيرهم من رموز النظام المباركيّ، ثم إجراء الإنتخابات، ومن بعدها الدستور.
أن يظن أحدٌ ينتمى للعمل السياسيّ، ولو للحظة، أن هذه الخطوات يمكن تحقيقها مع وجود العسكر وحكومة شرف على رأس المنظومة السياسية "الإنتقالية"، فهو عارٌ على العمل السياسيّ، وخطر على الثورة، إذ الإنتقال هنا سيكون من ديكتاتورية عائلة، إلى ديكتاتورية مجلس كالعائلة، ومن حكومة نظيف إلى حكومة تسير على نهج نظيف. فالسرطان لا يزال يسرى في مؤسسات الدولة، ولا نية للقضاء عليه.
هذا هو الموقف، وذاك هو الهدف، وهذه هي الوسيلة، فهل من مدّكر؟
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: