البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

رمضـان وناسك المدينة

كاتب المقال د. خالد الطراولي    من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
 المشاهدات: 6522 ktraouli@yahoo.fr


 يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط


كلما حال الحول ودلف رمضان الكريم بردائه المضيء، انتبه الغافل، وتردد المستخف، وتوقف المتحامل...لا يستطيع أحد تجاوز هذه المحطة السنوية في حياة الفرد المسلم، والتي تكاد تنعدم فيما سواها من الأديان والثقافات. الجميع، بين مهرول وماش ومسرع، يتجه بماضيه السنوي نحو حاضر جميل، تحتمله محطة شهر قمري قصيرة، لتجديد آفاق مستقبله ومراجعة أيامه الخوالي، وشحن بطاريات الصمود والتقوى والمقاومة الإيمانية والعمل الصالح.

رمضان عبادة حضارية بامتياز، وهي وإن كانت محطة طقوسية وشعائرية هامة وركنا أساسيا للإسلام، فهي تنتقل من عالم الشعيرة الضيق إلى رحاب تنزيلها في عالم السلوك والممارسة. ليس رمضان ـ كما هو معروف ـ كف عن الأكل والشرب والجماع فقط، ولكنه حياة أخرى، تخيط ملبسها على وقائع شهر كريم مليء بعناصر التقوى والإيمان، حياة أخرى في صلب المجتمع وبين أطرافه، فمن يصوم لا يصعد صومعته ويمكث فيها ناسكا متعبدا إلى أن يرى هلال العيد، ولا أن يعتكف في محرابه شهرا كاملا بعيدا عن الناس، ولكنها حياة مدنية متميزة بلبوس إيمان وتقوى من الطراز الرفيع.

رمضان سلوك يومي لإنسان عادي، في إطار من الروحانيات والإيمانيات الطاغية والمهيمنة على كل جوانب الحياة، من ذكر واستشعار متواصل لهذا العلاقة الخاصة مع الله، والتي تحدد مسار حراك الفرد والمجموعة، وتذكّر الغافل والجاهل أنها الأساس المنسي في حياتنا الخاصة والعامة، حيث تبدو كل لمسة أو قولة أو وقفة أو حراك في رمضان وفي غير رمضان، مشدودة إلى الخيط الحريري مع السماء.
الصائم رجل عادي، ناسك في المدينة وبين الناس، حتى إذا سابه أحد أو شتمه قال إني صائم إني صائم، ويواصل طريقه، فهو بين الناس يتحمل قربهم وأذاهم، ويربيهم ويربي نفسه بينهم بسلوكه ومواقفه... فحراكه عبادة، وفعله عبادة، وصمته عبادة، نصيحته عبادة وانسحابه عن مواطن اللجج والمجادلة العقيمة عبادة.

محطة رمضان ليست انزواء عن مناطق الفعل والممارسة، بدعوى شحن البطاريات والابتعاد عن إثارات الدنيا وتحدياتها، ولكنها حياة مسترسلة، لا تتوقف، بين عبادة المحراب وعبادة السوق، لا يلزمها انقضاء النهار وحلول الليل بالتوقف والاسترخاء، فهي عبادة مسترسلة أطراف الليل والنهار، تتنقل بين الشعيرة، وما يلفها من صيام وذكر وصلاة، ولعله يحملها الليل أكثر من النهار، وبين هذا اللقاء اليومي بين الناس، وفي صلب هموم المجتمع، والذي يتطلب تنزيل هذه الشحنة الإيمانية الغزيرة التي امتلأت ليلا وتجربة تأثيرها بين الناس.

وإذا كانت الأفضلية تعود دائما إلى ناسك المدينة على ناسك الصومعة في ديننا، حيث لا رهبانية، فإن رمضان يمثل ولا شك، هذه الملامسة الحضارية والمتوازنة بين مطالب الروح ومطالب الجسد، بين حقوق الفرد الروحية والإيمانية، وواجباته العينية نحو مجتمعه وأسرته وما يدور في فلكه.
فرمضان وإن كان محطة روحية بامتياز، فإنه يمثل الحالة المثلى للفرد المسلم، الذي يستشعر دوره المجتمعي في إطار من الإيمان والتقوى. وهي الحالة النموذجية التي يجب أن تكون عليها حياة الفرد، حيث يكون العامل الإيماني محددا في سلوكه العام، وليس فقط محددا لعلاقته الشعائرية. فالحبل الذي نسعى إلى ربطه بالسماء، لا يجب أن يتخلف عن دوره الأرضي، و عن العلاقة المباشرة مع الناس، وهو في الحقيقة الهدف الأساسي لهذا الدين، وهو إصلاح العلاقة مع الله وتثبيتها عالية، وإصلاحها بين الناس، والعمل على صلاحهم وإصلاحهم في رمضان وفي غير رمضان.
وفي هذا الباب يقبل علينا تاريخ الأجداد مجيدا، فلم يكن رمضان شهر السكون العملي والانسحاب عن مواطن الحدث، بل ظل طيلة فترات حضارتنا في أيامها المشرقة، يصنع الحدث ويغير التاريخ والجغرافيا على السواء، فكانت الانطلاقة المباركة لنزول الوحي، وهو الحدث الأكبر الذي تشهده البشرية، لما له من تأثير مباشر على فلاحها في الدنيا والآخرة، فكان رمضان الإطار الزماني الطيب لهذا الحدث الفريد والموعد الخاص. وتواصل تباعا هذا المنهج السليم منذ الأيام الأولى لبناء أصول الدعوة وأسس الدولة، فكانت موقعة بدر، شرارة البدء الصحيح لهذه العلاقة بين السماء والأرض وكانت أياما من أيام الله الخالدة في رمضان، وتبعها بعد مدة فتح مكة، وتثبيت الدولة الإسلامية، ودخول الناس أفواجا في الإسلام.

وفي رمضان الفعل والحراك وصنع الحدث والاستجابة للتحدي، فتحت الأندلس وبلاد السند وبلاد المجر، وفتحت عمورية على صوت امرأة مسلمة يتيمة مرمية، نادت بأعلى صوتها وامعتصماه...

وفي رمضان البناء والتعمير، شُيّدت أكبر المساجد وأهمها تأثيرا وفعلا، فكان مسجد القيروان منارة الدعوة، وأذانا بتواصل المد الإسلامي نحو أراضي جديدة في إفريقيا وبلاد المغرب، وكان جامع الأزهر منطلقا لتثبيت الحضارة الإسلامية كحضارة علم وتعمير.
هذا هو رمضان الذي نريد، ورمضان الذي سطره الوحي علاقة بين الأرض والسماء، وإطار تاريخي وجغرافي يصنع الحدث، في ظلال متينة من الإيمان والتقوى، من أجل صلاح الفرد والمجموعة في الدنيا والآخرة.
ورمضان كريم للجميع.
أوت 2009 / رمضان 1430


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

شهر رمضان، تقوى، فاعلية، سلبية، إنتاج، فكر،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 28-08-2009  

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

 مشاركات الكاتب(ة) بموقعنا

  الشعب يريد الانتخابات الفورية...رسالة برقية إلى أهل الشرعية
  التقارب بين النهضة ونداء تونس...أسئلة الحيرة !!!
  بعد قراءة كتاب "حاكمة قرطاج"... موقفك من ثلاث...
  لقد رأيتها بعد 14 سنة ونيف...
  الإسلاميون والانتخابات والاستخلاف : نشارك أم نقاطع ؟ النموذج التونسي
  رمضـان وناسك المدينة
  نحو ترشيح الدكتور الصادق شورو للرئاسيات (مشروع مبادرة من اللقاء الإصلاحي الديمقراطي)
  لمــاذا لا يريد بعض الإخوة الخير لبعضهم ؟ أو حتى لا يفشل الإعلام المعارض!
  هل غابت الجماهير العربية في تاريخها وحاضرها ؟
  La Finance Islamique en France et les intermédiaires… Quelques recommandations
  العـودة ومؤتمـرها أين الخلـل ؟ -2-
  العـودة ومؤتمـرها، أين الخلـل ؟
  هل فوّت الاقتصاد الإسلامي "فرصة" الأزمة
  هل تراجع الشيخ سلمان العودة عن شهادته حول تونس؟
  من كان حقيقة وراء الأزمة العالمية ؟ من التشخيص إلى البحث عن البديل
  الإســلاميون وصهر الرئيس : أين الخلل ؟ نموذج للعلاقة مع السلطة
  هل أدافع عن محمد صلى الله عليه وسلم في بيتنا ؟
  أزمـة البورصة والمقاربة الإسلامية
  رأيت رسـول الله، صلى الله عليه وسلم
  المواطن..المواطنة..الوطن السلسلة الذهبية المفقودة
  الأزمة المالية ومعالم البديل الإسلامي
  قامـوس غـزة الجديد إلى العالم
  غـزة وأسئلة طفلي الحرجـة !
  مطلوب عنـوان لمجزرة
  مشـاهد من وراء خطوط النـار الجزء السادس*
  مشـاهد من وراء خطوط النـار الجزء الخامس*
  عذرا، لا أريد أن أكتب عن غزّة!!!
  من خُفَي حُنين إلى حذاء الزيدي : حوار المقامات
  اجعلوا أضحيتكم وحجكم المكرَّر لأهل غـزة!!!
  كلمة حـق نصدع بهــا...في انتظار الجواب !!!

أنظر باقي مقالات الكاتب(ة) بموقعنا


شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
فوزي مسعود ، د. خالد الطراولي ، د. عادل محمد عايش الأسطل، سفيان عبد الكافي، علي عبد العال، طلال قسومي، خالد الجاف ، د- جابر قميحة، يحيي البوليني، د - عادل رضا، حميدة الطيلوش، حاتم الصولي، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، ياسين أحمد، محمد أحمد عزوز، د- محمود علي عريقات، ضحى عبد الرحمن، رافع القارصي، رشيد السيد أحمد، د- محمد رحال، د- هاني ابوالفتوح، صفاء العراقي، د - محمد بنيعيش، د. أحمد بشير، محمد يحي، محمود طرشوبي، مجدى داود، د. أحمد محمد سليمان، إياد محمود حسين ، د. كاظم عبد الحسين عباس ، محمد الياسين، د - المنجي الكعبي، د. عبد الآله المالكي، أنس الشابي، فتحي الزغل، سلوى المغربي، مراد قميزة، سامح لطف الله، أبو سمية، ماهر عدنان قنديل، كريم السليتي، أ.د. مصطفى رجب، سيد السباعي، أحمد الحباسي، منجي باكير، يزيد بن الحسين، د.محمد فتحي عبد العال، خبَّاب بن مروان الحمد، عبد الرزاق قيراط ، رحاب اسعد بيوض التميمي، الناصر الرقيق، حسن الطرابلسي، د - مصطفى فهمي، العادل السمعلي، محمد عمر غرس الله، أحمد النعيمي، محمد شمام ، أشرف إبراهيم حجاج، محمود فاروق سيد شعبان، كريم فارق، صالح النعامي ، د. صلاح عودة الله ، رمضان حينوني، صلاح المختار، محرر "بوابتي"، الهادي المثلوثي، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، مصطفي زهران، فتحـي قاره بيبـان، عبد الله زيدان، حسني إبراهيم عبد العظيم، إيمى الأشقر، أحمد بن عبد المحسن العساف ، محمد العيادي، عبد الله الفقير، عبد الغني مزوز، إسراء أبو رمان، صباح الموسوي ، د - شاكر الحوكي ، الهيثم زعفان، صلاح الحريري، تونسي، علي الكاش، عزيز العرباوي، المولدي الفرجاني، د - الضاوي خوالدية، عمر غازي، د. ضرغام عبد الله الدباغ، صفاء العربي، د. طارق عبد الحليم، د - محمد بن موسى الشريف ، أحمد ملحم، وائل بنجدو، محمد اسعد بيوض التميمي، سليمان أحمد أبو ستة، د - صالح المازقي، فتحي العابد، د. مصطفى يوسف اللداوي، سامر أبو رمان ، سلام الشماع، فهمي شراب، رضا الدبّابي، جاسم الرصيف، رافد العزاوي، محمد الطرابلسي، نادية سعد، عواطف منصور، محمود سلطان، عمار غيلوفي، أحمد بوادي، عراق المطيري، حسن عثمان، سعود السبعاني، مصطفى منيغ،
أحدث الردود
مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


It is important that issues are addressed in a clear and open manner, because it is necessary to understand the necessary information and to properly ...>>

وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة