د. ضرغام عبد الله الدباغ
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8851
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
بتاريخ الثاني من شهر كانون الأول/ 1805 أنتصر نابليون في معركة أوسترليتز Austerlitz التي أطلق عليها فيما بعد بمعركة القياصرة الثلاث لمشاركة كل من: روسيا والنمسا، وبذلك مهد الطريق لقيام تحالفات أوربية، وبالتالي سياسات أوربية وأفكار توحيد أوربا من خلال وحدة مصائر شعوبها، والتقارب في الثقافات الأوربية القائمة أساساً على الأسس المسيحية الذي مثل القوام (الأساس النظري) Fundament للتطورات النظرية والعملية في الحياة السياسية والاجتماعية الأوربية حتى العصور الحديثة(الثورة الصناعية) وما تزال المسيحية تشع حتى عصرنا الحاضر بتأثيرها الفكري ووجودها في الحياة السياسية بهذه الدرجة أو تلك من الأهمية.
(الصورة: نابليون يدخل برلين غازياً محتلا)
نابليون بونابارت: هل هو طاغية أم مصلح ..؟
تساؤل مهم أطلقته المجلة الألمانية الواسعة الانتشار: شتيرنStern بافتتاحية شاء رئيس تحرير المجلة توماس أوستر كورن أن يدبجها بنفسه تحت عنوان: نابليون وأوربا. في محاولة لتجذير فكرة الوحدة الأوربية ومنحها البعد التاريخي لإكسابها مزيد من الشرعية والاصالة، لذلك ومن المؤكد أنه ليس بمقال أو بحث تاريخي عابر، ولكن ما هي العبرة من ذلك حقاً.
والحق أن تسامي الثقافة وعملية التحضر كانت أكبر من ذلك بكثير وأعمق جذراً، ومن المعقول والجائز منح الثورة الفرنسية وإرهاصاتها وإفرازاتها الأهمية التي تستحقها، ولكن من الصعوبة إرجاع هذه التطورات للحقبة النابليونية لوحدها، بل أنها تعود بجذورها حتى إلى ما قبل عصر النهضة. فما مذهب السكولاستية Scholaticism ومساعي القس توما الأكويني، إلا محاولة كبيرة لتجسير العلاقة بين اللاهوت والفلسفة، بسبب عمق جذور الفلسفة في أوربا، فهي موجودة حتى قبل المسيحية. ففي الوقت التي كانت الأفكار الفلسفية / السياسية رائجة في أوربا منذ ما لا يقل عن 450 عاماً قبل الميلاد، فيما لم تتخذ الإمبراطورية الرومانية المسيحية كمذهب رسمي للدولة إلا بعد 325 ولم تتوقف قط عملية التراكم والتبلور في الموضوعات السياسية الرئيسية منذ ذلك الحين.
أما عصر النهضة Renaissance والليبرالية والتنوير، فقد كان قد فتح الأبواب على مصراعيه وجعل الاحتمالات الكبيرة ممكنة، ومن تلك ما كان يعتبر إلى ما قبل سنوات قليلة خطوط حمراء جهنمية، التقليص الحاسم لدور الكنيسة، الدور الأكبر للمثقفين، تنامي مهم لدور الطبقة الوسطى ومؤسساتها، مقابل تضاؤل كبير لدور الإقطاع، وأخيراً ها هي إفرازات الثورة الفرنسية تفتح النار على الملوك والقياصرة دون مواربة، وتطيح بقيم واعتبارات، تلك التي كانت من المناطق المحرمة، وكان مجرد التفكير فيها من الأحلام المستحيلة.
ونابليون الذي ولد في 15/ آب ـ أغسطس / 1769 على أرض جزيرة كورسيكا التي لم تكن تابعة لفرنسا(لم يكف الكورسيكيون عن المطالبة بالأنفصال) إلا في العام السابق لولادة نابليون. وعندما أعلنت الجمهورية ومبادئها الشهيرة الثلاث: حرية ـ مساواة ـ أخاء، في عام 1792 لم يكن الضابط الشاب نابليون يبلغ أكثر من الثالثة والعشرين من العمر من عائلة كورسيكية مغمورة، ولكنه سيتصدر الأحداث ويغدو نجمها اللامع، ولذلك بالطبع مغزاه الكبير، فلولا الثورة ومبادئها، فلن يكون مقدراً لنابليون أن يصبح غير جندي أو ضابط مجهول في جيش الإمبراطورية، وهنا تكمن الأهمية في سياق فهم أهمية التطورات التي طرأت على الفكر السياسي، بل وعلى طبيعة هيكلة الدولة والمجتمع وانعكاساته على مؤسسات الدولة، ونذيراً بالغ الأهمية للدور المحتمل للقوات المسلحة سياسياً بالدرجة الأولى.
وبعد خمس سنوات فقط، ستضطر الإمبراطوريات العتيقة في أوربا توحيد قواها، وكان من الشائع في ذلك الوقت تصاهر العائلات الملكية الأوربية، مما كان يوحد أواصرها من جهة، ومصائرها من جهة أخرى. لذلك خلق التكتل الأوربي الأول 1792 ـ 1797 بين فرنسا والنمسا ضد بروسيا. وفي غمرة الأحداث التي كانت تتطور وتطرح تبلورات جديدة، تدفع بنابليون إلى رتبة جنرال قائد فرقة في حامية باريس. وبعدها بسنتين فقط يصبح نابليون رمز التحولات الجديدة، قائداً لجيوش الوطن وهو بسن ستة وعشرين سنة فقط .!
وبمعركة آركولو الحاسمة تضم فرنسا إيطاليا إليها في كيان سياسي واحد، وكانت الثورة الفرنسية قد أعلنت دون مواربة، أنها تهدف إلى توسيع ثورة المساواة في لأوربا، وتطرح بذلك للمرة الأولى بواعث Argomentation غير سياسة الهيمنة والضم والألحاق، وإن كانت في جوهرها كذلك، إلا أن رياح التغير كانت قد هبت فعلاً لا محالة.
وبحملة نابليون على مصر، فهو لم يقم بما فعله قياصرة وأباطرة سابقون، كقادة الإمبراطوريات الإغريقية والرومانية، في توجههم صوب الشرق الكبير الغني القديم الغامض، فنابليون أراد أن يمنح حملته مغزى جديد في نشر الثقافة والعلوم ومبادئ الثورة. ففي 19/ أيارـ مايو / 1798 نزلت قوات الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابارت على البر المصري، وما لبث أن سحق جيشاً مملوكياً بتاريخ 21 / تموز ـ يوليه / 1798 ثم صار له احتلال مصر.
والعدد الوفير من العلماء والخبراء يشير إلى هدف معلن للحملة الفرنسية : عصر التنوير، فالحملة كانت تضم في عدادها إلى جانب الخمسة وثلاثون ألف جندي :21 من علماء الرياضيات ـ 3 فلكيين ـ 17 مهندساً ـ 13 من علماء العلوم الطبيعية ـ 4 من المعماريين. ولابد أن هذه الأرقام كانت تعني شيئاً مهماً في تلك الظروف.
وإذا كانت هذه الأرقام تعد مهمة لمصر التي كانت غاطسة في مفاسد المماليك، لكن الحملات الفرنسية كانت مدهشة للأوربيين أنفسهم على ما تنطوي عليه من قوة إشعاع جديدة، قد لا تكون لشخصية بونابارت الدور الحاسم الأول.
وفي أوربا ترامى المثقفون وقادة الرأي على أقدامه، وبعضهم فعل ذلك بتهافت. فقد لحن الموسيقار بتهوفن السيمفونية الثالثة أيروكا Eroica من أجله، أما بالنسبة للشاعر هولدرلين Hِerlin فقد كان القائد الرائع، وقال المفكر هيغل Hegelعنه أنه يرى فيه "ضمير العالم و القائد الضرورة ..!" وأضاف هاينرش هاينة على هذه الأوصاف عندما شاهد نابليون يختال بجواده الأبيض في طرق دسلدورف منبهراً "سوف لن تمحى هذه الصورة من ذاكرتي" .
والألمان والأوربيين الذين كانوا يمتنعون، وينكرون تهافت أدبائهم ومثقفيهم لإرادة المحتل، بل أن الأديب وشاعر الألمان الأكبر يوهان فولفجانج غوتة، كان من المتعاونين مع نابليون الذي عينه محافظاً على ولاية ينا. وكان الألمان يتحرجون من مواقف بعض رموزهم الثقافية والحضارية، لكن الألمان اليوم في مطلع الألفية الثالثة لا يتورعون من ذكر هذه الحقائق على أنها شواهد حسية على وحدة الوجدان الأوربي، بل والجذر الثقافي أيضا، وأكثر من ذلك هناك من يعتقد أن الاحتلال الفرنسي لألمانيا، الذي كان يعده البعض عاراً وطنياً حتى الأمس القريب، وهذا البعض هو اليوم من الصفوة المثقفة التي تصرح: أن نابليون قد أسدى خدمة تاريخية مهمة لألمانيا...!
يقول رئيس التحرير توماس أوستركورن: أن نابليون سن قوانين الإدارة البورجوازية في ألمانيا، وكانت من قبل تحت إدارة وهيمنة الأكريلوس الديني والقياصرة وأمراء الإقطاع، وأزال وبقوة أمتيازات النبلاء، وأعاد نابليون تقسيم ألمانيا من جديد، ومن مئات الإمارات، جعل منها نابليون 30 إمارة ومن بقع أمارات لا أهمية لها صنع مملكة فيستفالن وأقام نظم إدارة حديثة، وأمر بزراعة أشجار الحور على الطرقات ليسير جنوده تحت ضلالها وأسس قيماً واعتبارات جديدة. معلناً الأفلاس النهائي لعقيدة الأولترامونتانيه Ultramontane التي تكرس سلطة البابا السياسية على الحكومات المسيحية.
(الصورة: تمثيل فلم جديد عن نابليون في ألمانيا)
ولكن لماذا يقول الألمان اليوم ما كان يعتبر إلى الأمس القريب نقاطاً مظلمة في التاريخ الألماني.؟
ففي 6 /آب ـ أغسطس / 1806 قبل القيصر فرانتز الثاني الأنذار النهائي Ultimatum من نابليون وبذلك كانت نهاية الإمبراطورية الرومانية المقدسة للشعب الألماني، وبعد سلسلة من الحروب بدت فيها فرنسا سيداً لا يقهر في أوربا، وكانت جذابة في مجال الفكر والتحرر، وكان جيشها يحرز بقيادة عبقرية معاركه بظفر.
ولكن نابليون بدا من جهة أخرى طاغية، بل وطبع صيته وشهرته بهذه الصفة، يحول أرادته ورومانسية الثورة الفرنسية إلى أفعال، ولكن بعضها كانت ينطوي على نتائج كارثية، ولما حلت كارثة الحملة الروسية التي فقد فيها معظم جيشه المنهك والممزق أشلاء حيال عناد الروس في سهوب روسيا الجليدية، وأصطدم بالدبلوماسية البريطانية، وكانت كل أوربا قد دانت له باستثناء الدولة العثمانية روسيا وبريطانيا والبرتغال في أوربا، تجمعت العائلات الأوربية الحاكمة وخاضت الحرب ضده وألحقت به خسارة جسيمة في معركة الأمم / لايبزج 1812. مهدت للاندحار الأعظم كما هو معروف في معركة واترلو.
وتحاول وسائل الثقافة الألمانية والأوربية عموماً، ومن خلال عروض سينمائية ومسرحية وأعمال فنية كثيرة، تؤدي في مجموعها إلى أعادة صياغة هادئة دون ضجيج وانفعالات حماسية، لذهن المواطن الأوربي على أصعدة الثقافة المختلفة، وللتأثير في فكره السياسي، وأحاطة الفرد بمشاعر أوربية، تعكس أرادة ورغبة الإتحاد الأوربي في خلق أمزجة موحدة للأوربيين، وذلك يعكس أن الخيار الأوربي هو خيار نهائي، أمام تحديات القرن والألفية الثالثة. تريد إغفال جانب القهر الوطني وحقيقة أن الحروب النابليونية كانت في جوهرها، حروب توسع وضم وسعياً لتحقيق النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري.
كان المستشار السابق هيلموت شمت، قد قدم محاضرة بالغة الأهمية في مدينة نورنبرغ بعنوان أوربا بعد 20 طرح فيها أراء حساسة بدا فيها غير متفاءل حيال مؤشرات عديدة في أوربا، منها تراجع جذوة الإبداع الأوربية، محذراً بشدة من الآسيويين على سائر الصعد، ومنبهاً إلى خطورة الحملة المعادية للعرب والإسلام، وداعياً بشدة إلى خلق كل ما هو ضروري لتمتين أواصر الأوربيين، ودون ريب أن خلق الاندماج الثقافي وتيسير معطياته هو أحد وسائل هذا المشروع.